
قصة نفوذ أسقط الضمير
بقلم: رشان أوشي
في عهد الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، الذي جعل من العدل والشفافية شعاراً لإصلاح مؤسسات الدولة وتطهيرها من الفساد، كان من المفترض أن يجد كل مظلوم مسمعاً من القيادة العليا، وأن تصل العدالة إلى من يستحقها. لكن ما جرى في سلطة الطيران المدني يطرح تساؤلات كبيرة حول مدى صمود هذه المبادئ أمام شبكة نفوذ متغلغلة داخل مؤسسات الدولة.
الضحية في هذه القصة رجل أفنى أكثر من ثلاثين عاماً في خدمة الدولة، تنقل خلالها بين المواقع والمسؤوليات بصدق وانضباط، حتى وجد نفسه في مواجهة شبكة فساد داخل مؤسسة سيادية حساسة، بعدما حاول إعادة الانضباط إلى بيت تسلل إليه الفساد منذ سنوات.
في مطلع عام 2023، تم تعيين مدير عام جديد لسلطة الطيران المدني، قادماً لإطلاق إصلاحات طال انتظارها بعد سنوات من التسيّب الإداري. لكنه فور وصوله إلى بورتسودان اكتشف أن السلطة مقسومة إلى هيكلين متوازيين، أحدهما في عطبرة والآخر في بورتسودان، وكأنهما دولتان داخل مؤسسة واحدة.
في قلب هذا الهيكل الغامض، وجدت موظفة صاعدة تمارس صلاحيات غير مخولة لها رسمياً، تتولى مناصب متعددة تشمل إدارة مكتب المدير العام، سكرتارية مجلس الإدارة، وتنسيق أعمال فريق عطبرة للطوارئ. وعندما حاول المدير العام إنهاء تكليفها وإعادة الانضباط، بدأت المعركة، إذ ظهرت الموظفة في الإعلام بهجمات غاضبة وتهديدات علنية، كما تدخلت مكاتب عليا في السلطة لممارسة ضغط مباشر على المدير العام.
بعد إقالته تحت ضغوط مكثفة، برأت لجنة تحقيق رسمية المدير العام من جميع الاتهامات، بعد أن شملت اللجنة ممثلين عن وزارة العدل، المخابرات العامة، الاستخبارات العسكرية، وزارة الدفاع، وزارة العمل، وزارة المالية، سلطة الطيران المدني، ومندوب السودان لدى الإيكاو.
لكن المدير العام لم ينتهِ من معاناته، إذ واجه حظر سفر مجهول المصدر عند محاولته مغادرة البلاد إلى القاهرة، وتم احتجازه دون تهمة رسمية، فيما وصف محاموه الحبس بأنه “حبس انتقامي”، ودوّنت ضده بلاغات تتعلق بموازنة 2024 التي أقرها مجلس الإدارة ووزارة المالية ووزارة الدفاع.
الأدهى من ذلك، أن تجاوزات مالية مثبتة على موظفين آخرين بقيادة نفس الموظفة السابقة تم تجاهلها، رغم وجود مستندات رسمية تدينهم، ما يضع علامة استفهام كبيرة حول استخدام النفوذ من داخل مكاتب عليا لتصفية حسابات شخصية ومعاقبة من حاول الإصلاح.
هذه الواقعة ليست مجرد سوء إدارة، بل درس صارخ في كيفية تأثير النفوذ على المؤسسات، ومدى الحاجة إلى آليات حماية قوية لضمان استقلالية العمل المؤسسي. إنها دعوة للقيادة العليا للوقوف بحزم أمام التجاوزات، واستعادة الحقوق إلى أصحابها، لضمان استمرار ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة وقادتها.
وفي الحلقة القادمة، ستسلط الضوء على خطابات سيادية موجهة لسلطة الطيران المدني تحمل مطالبات مالية بمبالغ ضخمة تتجاوز اللوائح والنظم المعمول بها.









