مقالات

الجنجويد فكرة.. قراءة في أزمة الجنيه وإدارة البنك المركزي

النورس نيوز

الجنجويد فكرة.. قراءة في أزمة الجنيه وإدارة البنك المركزي

بقلم: الطاهر ساتي

مقالات _ النورس نيوز _ يستمر الجنيه السوداني في الانحدار بوتيرة متسارعة، وليس من المنتظر أن يتوقف هذا التدهور ما لم يوجّه المجلس السيادي بصره نحو إدارة بنك السودان وسياساتها. فهذه الإدارة لم تكن علة الاقتصاد اليوم فقط، بل منذ سنوات طويلة، غير أن موقعها ظل محمياً من المساءلة. ويكفي القول إن البنك المركزي، المفترض أن يكون المرجع الأعلى للنظام المصرفي، يقف عاجزاً عن إلزام مؤسسات الدولة وشركاتها بتحويل حساباتها إلى البنوك الحكومية وفق ما تنص عليه لوائح المال العام.

الأغرب من ذلك أن الكتلة النقدية للبلاد تُرهن لبنك تجاري واحد، أصبح لاعباً أساسياً في المضاربة وتجارة العملات، دون أن يواجه أي رادع من السلطات النقدية. وهذه ثغرة كارثية ظلّت إدارة بنك السودان تغض الطرف عنها، مع أنها تمثل خطراً استراتيجياً على استقرار الاقتصاد الوطني. وليس غريباً أن يصرّح اللواء ياسر عطا ذات يوم بغضب بأن “الجنجويد يسيطرون على البنك المركزي”، قبل أن يصمت هو أيضاً، وكأن الأمر فوق طاقة الجميع.

في مارس الماضي، تحدث الفريق إبراهيم جابر خلال ورشة اقتصادية عن التزام الدولة بمشروع التحول الرقمي والشمول المالي، مؤكداً أنه لا تراجع عن هذا المسار. لكن ما حدث كان العكس تماماً؛ إذ فرضت مراكز القوى الفاسدة تراجع الدولة وخضوعها. فالشمول المالي يعني إتاحة الخدمات المصرفية لكل أفراد المجتمع ومؤسساته عبر قنوات رسمية وآمنة، لكن الواقع اليوم أن هذه القنوات محتكرة من قِبل بنك واحد فقط.

لا توجد دولة في العالم تسمح لمصرف واحد بالهيمنة على 90% من كتلتها النقدية، سوى السودان. هذه سابقة خطيرة، يدرك وزير المالية جبريل إبراهيم مخاطرها جيداً، لكنه لا يحرك ساكناً. فالتجارب من حولنا واضحة: مصر أنشأت منصة موحدة للدفع الإلكتروني “إنستا باي” لتوحيد خدمات الدفع والتحويل، وكينيا أطلقت خدمة “إم-بيسا” للتحويلات المالية، وأصبحت نموذجاً يحتذى به عالمياً. بينما في السودان، يُترك مصير الاقتصاد رهينة لأفراد، بينهم مستثمرون أجانب، يحتكرون المنصات ويقودون المضاربات بلا رقيب.

أما الأمن الاقتصادي، فيبدو منشغلاً بالحرب وحدها، وكأن تراجع الجنيه لا علاقة له بالسياسات النقدية المختلة ولا بالمضاربات الجارية في الخفاء. ومع كل انهيار جديد للعملة، يُكتفى بترديد الأسطوانة المعتادة: “الحرب السبب”، بينما يتم تجاهل الأخطر، وهو التحايل على النظام المالي وغياب المنصة الرقمية الموحدة التي كان يفترض أن تمتلكها الدولة، لا أن يحتكرها “الجنجويد” في البنك المركزي.

إن معركة الجنيه ليست معركة أسعار صرف فقط، بل هي معركة سيادة اقتصادية، وحين تصبح المنصات المالية رهينة لأصحاب النفوذ والمال، فإن الدولة تكون قد سلّمت اقتصادها بيدها لمنظومة فساد منظمة.. والجنجويد هنا ليسوا مجرد مليشيا، بل فكرة، عقلية، وأسلوب سيطرة يتجسد في كل مفصل حيوي من مفاصل الدولة، بما فيها قلبها المالي.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى