خارج النص
يوسف عبد المنان
مع كيكل (2)
قوات درع السودان لا تقوم بتوزيع الرتب على منسوبيها عشوائيًا كما تفعل بعض الحركات المسلحة، وهي تنتظر إدماجها في القوات المسلحة. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل الإدماج ممكن حتى بعد انتهاء الحرب؟ أم أن هذا الإدماج قد يفتح جروحًا أخرى غائرة في جسد وطنٍ مثخن بالجراح والآلام؟
الأعداد الكبيرة التي تقترب من نصف مليون شاب من “الدراعة” يستحيل إدماجهم جميعًا في القوات المسلحة بشروطها ووفق تطلعاتهم المتباينة، بين تاجر مواشٍ، وراعٍ للإبل، ومزارع. وكل بطانة “كيكل” تحمل السلاح تحت رايته، بعدما تمدد نفوذه إلى النيل الأزرق، وتدفقت إلى معسكراته مجموعات من القمز والهوسا والإنقسنا، ثم تمدد إلى كسلا، وانضم إليه بعض من منسوبي قوات الأسود الحرة التي كانت تحت قيادة مبروك مبارك سليم. واليوم، بعد انفتاح الدرع في كردفان، يُنتظر انضمام أعداد كبيرة خاصة من مناطق دار حامد والجوامعة، في ظل المتاريس التي تواجه المقاومة الشعبية ومحاولات وئدها وإضعافها خوفًا من تمددها.
بطبيعة الحال، فإن الترتيبات الأمنية والعسكرية بعد إيقاف الحرب قضية شائكة جدًا، وصعبٌ على الدولة استيعاب كل هذه الجيوش التي تحمل السلاح الآن، وإلا أصبح لدينا أكبر جيش في العالم من حيث العدد، في وقت بدأت دول مثل تركيا تعتمد كليًا على الطائرات من دون طيار والمسيرات المتقدمة، بما يعني عمليًا خفض عدد قوات المشاة.
لكن الفصائل العسكرية في السودان تمضي في اتجاه مغاير نحو التحول المدني. فحركة العدل والمساواة، رغم الحرب، مضت بعيدًا في استقطاب الكفاءات السياسية من كل أطياف وقبائل السودان. أما كيكل حتى اليوم، فلم يُحِط نفسه بسياسيين حتى من الدرجة الثالثة، وظل متجردًا للقتال، وحده الصحافي يوسف عمارة أبوسن يكافح من أجل إيصال صوت الدرع، ويوسف عمارة كاتب موسوعي وقلم له نكهته، ويُسنده بيت النظارة… وما أدراك ما نظارة الشكرية.
لكن تحوّل الدرع إلى كيان سياسي أو إنشاء ذراع سياسي له قضية شائكة، ولا يميل كيكل إلى إضافة أحمال جديدة إلى الأثقال التي ينوء بها ظهره: توفير احتياجات المقاتلين، علاج الجرحى، تبعات الشهداء، وخوض المعارك بنفسه، دون أن يشكّل هيئة قيادة لقواته تتولى أعباء الإدارة والتنظيم. وهذا يجعل الدرع منظومة مرتبطة بشخص واحد؛ فإذا غيّبته الظروف تلاشى الدرع، وقد يشكل حينها خطرًا على الأمن القومي لكثرة منسوبيه وشعورهم بالظلم، خاصة في منطقة البطانة وقضية تعليم الرحّل.
في قرية ود جودات، وجدت شيخًا جاء من خلاوي الشيخ البرعي لتعليم العرب الفقه وتحفيظ الصغار القرآن الكريم. ووجدتُ امرأة تعمل طبيبة، وزوجها يعمل فني معامل في قلب البطانة، اسمها “والدها يدعى هارون بنجامين”… امرأة بيضاء. سألتُ مرافقي من قوات الدرع: من أين جاءت بنجامين؟ فقال: “من الخرطوم”. وسألته: هل هي مسلمة؟ فقال: “لا… ولا زوجها، ولا علم لنا بدينها، لكنها طبيبة ماهرة تعالج أمراض الملاريا، وحمى الضنك، ولسعات الثعابين”.
لكن السؤال: كيف تعيش هذه الطبيبة في منطقة نائية وبعيدة جدًا؟ وما الرسالة التي جاءت من أجلها؟ خاصة أنها أشاحت بوجهها عني حين وجّهتُ إليها بعض الأسئلة.
فماذا وراء “بنجامين” في البطانة؟
نواصل…











