لم يسعَ لغيرها..!!
بقلم.. الطاهر ساتي
لم تكن المصادفات وحدها هي التي وضعتني في مواقع الإدارة داخل ثلاث صحف، بل كان اختباراً متجدداً لفكرة واحدة ظللت أؤمن بها: أن المؤسسات لا تنهض بالعضلات الفردية ولا بالقرارات الفوقية، بل بهياكل محترمة تُوزَّع فيها الصلاحيات بعدل، وتُمارس المسؤولية بشفافية، ويُحاسَب المخطئ وفق إجراءات لا وفق مزاج شخصي. بهذه الفكرة عشت التجارب الثلاث، وبها نهضت الصحف التي أدرتها، تأثيراً وانتشاراً واستقراراً مالياً.
وما زلت أذكر، ولا يزال شهودها أحياء، أنني لم أتجاوز يوماً مدير التحرير في تكليف أو محاسبة، ولم أطرق باب رئيس قسم إلا للسلام أو المواساة أو التهاني. ففريق العمل ليس قطعاً متناثرة تُصفّ على مزاج رئيس التحرير؛ بل منظومة لها قائد مباشر، ثم قائد أعلى، ثم نظام لا يسمح للعشوائية بأن تتسلل. ولذلك لم يدخل محرر واحد مكتبي بقضية عمل، لأنه يعرف أن مرجعيته رئيس قسمه، لا “المدير العام”.
أما اختيار المحررين ورؤساء الأقسام، فقد ظل حقاً كاملاً لمدير التحرير، لأن الرجل لا يُحاسَب على ما كتبه بيده، بل على ما كتبه محرروه. وكل ما عليّ فعله هو التدخل عند الضرورة عبر لجان مراجعة أو تحقيق، لا عبر أوامر فردية. تلك هي المؤسسية التي نكتب عنها ولا نراها في دولتنا إلّا في الشعارات.
ولأنني أؤمن بأن المؤسسية هي عماد النهضة، يؤسفني أن أرى غيابها على رأس الدولة نفسها. ولو كنت أعلم أن الأقدار ستأتي بالبروفيسور كامل إدريس رئيساً للوزراء، لألحقتُه، من فرط محبتي للسودان، بدورة تدريبية تحت إشراف الزميل محمد جادين، رئيس قسم الأخبار باليوم التالي، ليتعلّم الرجل أبجديات الإدارة: ما هي صلاحيات الرئيس؟ وما هي حدود القائد؟ وكيف لا ينبغي لك أن تنزلق إلى ما يصغّرك أمام العاملين والرأي العام.
من عشوائية حكومته – التي ظهرت للعامة – اتصاله المباشر بالزميلة لينا يعقوب لإبلاغها بقرار إلغاء إيقافها. ورغم أنه تصرف يبدو إنسانياً ولطيفاً، إلا أنه مثال واضح على تجاوز الهياكل الرسمية، وغياب المسار المؤسسي. وما ظهر للناس هو “رأس جبل الجليد”. وما خفي أعظم.
اسألوا وكيل وزارة الخارجية السابق حسين الأمين عن قصة خروجه من منصبه، وستعرفون أن “الاتصال العشوائي” بات وسيلة للإعفاء والتعيين. ولم نكشف للرأي العام – مراعاة لمشاعر الناس تحت نيران الحرب – تفاصيل الرحلات العشوائية للسعودية ومصر وسويسرا، ولا قصة إعفاء الدكتورة منى علي ثم إبقائها بعد الإعفاء، ولا كيف أصبحت الاستشارة نفسها عشوائية، لا دستور لها ولا قواعد.
ولن أظلم الرجل. فهو طيب ومهذب، يجيد ثلاث لغات، ويتحدث ببلاغة، ولكن هذه ليست مؤهلات كافية لقيادة دولة منكوبة تحتاج إلى قرارات مدروسة لا مرتجلة، وإلى مؤسسية لا مجاملات، وإلى رؤية لا ارتجال.
تحدث رئيس الوزراء عن خطة “المائة يوم”، وانتهت الأيام المائة، ولم نرَ الخطة ولا نتائجها. وها هو الحديث يدور الآن عن تقييم وزراء الحكومة، وعن إعفاء ستة منهم لفشلهم في أداء واجباتهم. وهذا أمر جيد من حيث المبدأ. لكن الامتياز الحقيقي – والأكثر فائدة للدولة – هو أن يكون الرئيس نفسه سابعهم… ولو مؤقتاً، ريثما يتعلم قواعد العمل المؤسسي ويستوعب أن الدولة ليست منصة خطابة ولا إدارة علاقات عامة.
السودان أضاف سطراً جديداً في سيرته الذاتية. سطرٌ كان بإمكانه أن يكون بداية إصلاح، لكنه – للأسف – أصبح درساً جديداً في غياب المؤسسية… وربما لم يسعَ الرجل لغيره.











