
سفير السودان في فيينا يقرع ناقوس الخطر
فيينا – النورس نيوز
في تحرك دبلوماسي لافت يعكس حجم القلق الذي يعتري البعثة السودانية في أوروبا، أطلق السفير السوداني لدى النمسا، مجدي مفضل، واحداً من أقوى تصريحاته خلال الأشهر الماضية، متهماً المجتمع الدولي بالتقاعس عن أداء واجباته تجاه ما يحدث في السودان من انتهاكات جسيمة وجرائم موثقة تتعرض لها المدن المحاصرة، وعلى رأسها مدينة الفاشر التي أصبحت عنواناً للأزمة الإنسانية المتصاعدة. وجاء حديث السفير خلال لقاء جمعه بعدد من السفراء وممثلي البعثات الدبلوماسية في مقر الأمم المتحدة بفيينا، حيث بدا واضحاً أن الدبلوماسية السودانية تتحرك في اتجاه تصعيد الملف دولياً بعد أن تزايدت الأدلة والشهادات حول الجرائم التي تُرتكب بحق المدنيين. وربط السفير بين الصمت الدولي وتفاقم الأزمة، مؤكداً أن الحرب الدائرة في السودان ليست مجرد نزاع مسلح محدود، بل ملف إنساني ضخم تجاوز الحد المعقول وأصبح يشكل تهديداً مباشراً للأمن الإقليمي، خاصة بعد مرور أشهر طويلة على اندلاعها دون تحقيق أي اختراق حقيقي يخفف معاناة السكان أو يوقف سيل الانتهاكات.
وقال مفضل إن ما يحدث في الفاشر لا يمكن اعتباره مجرد خروقات معزولة، بل هو سلسلة جرائم موثقة تشمل القتل والترويع والتجويع والتضييق على المدنيين، مضيفاً أن الصور والمشاهد التي خرجت من المدينة تكشف عن واقع “أشد بشاعة مما تنقله التقارير المختصرة”، على حد وصفه. وأشار السفير إلى أن القانون الدولي لا يزال يقف في مربع الانتظار رغم ما توفر من أدلة، مؤكداً أن هذا الصمت يشجع الأطراف المتورطة على مواصلة ما أسماه “ذبح الأبرياء” في ظل غياب أي مساءلة أو ضغط دولي حقيقي يمكن أن يوقف الانتهاكات. وأضاف أن النداءات المتكررة التي وجهتها الحكومة السودانية ومؤسسات المجتمع المدني لم تلق الاستجابة المطلوبة، وهو ما جعل المعاناة الإنسانية تتفاقم يوماً بعد يوم.
وفي حديثه عن العوامل التي تعقّد المشهد السوداني، كشف السفير السوداني بصورة واضحة عن وجود جهات خارجية تقدم دعماً مباشراً لمليشيا الدعم السريع، وهي المليشيا التي وصفها بـ”المتمردة”، مشيراً إلى أن هذا الدعم يأتي في أشكال مختلفة تشمل التمويل والتسليح والدعم اللوجستي والمعلوماتي، ما يجعل الحرب أكثر تعقيداً ويمنح المليشيا قدرة أكبر على الاستمرار في أعمال العنف. وأكد مفضل أن استمرار هذا الدعم الخارجي لم يعد مجرد شأن داخلي يخص السودان، بل قضية ذات أبعاد دولية، لأن تمدد الصراع في السودان وغياب الدولة في بعض المناطق بات يشكل تهديداً مباشراً للأمن الإقليمي، وخاصة في منطقة البحر الأحمر التي تمثل ممراً استراتيجياً للتجارة العالمية، مما يجعل استقرار السودان ضرورة إقليمية وليست مطلباً وطنياً فحسب.
وشدد السفير على أن مسؤولية المجتمع الدولي لا تقف عند حدود الإدانة أو التعبير عن القلق، بل يجب أن تتحول إلى إجراءات ملموسة يمكن أن تضع حداً للانتهاكات، وأن تخلق مساراً واضحاً للمساءلة، خاصة بعد أن أصبحت الجرائم المرتكبة في إقليم دارفور والفاشر تحديداً محل متابعة ومطالبة من منظمات حقوقية ودول عدة. واعتبر مفضل أن التباطؤ الدولي في اتخاذ موقف حازم لا يضر السودان وحده، بل يفتح الباب أمام احتمالات خطيرة قد تطال دول الجوار وتؤثر على المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى، لافتاً إلى أن هشاشة الوضع الأمني في منطقة البحر الأحمر قد تتفاقم إذا استمرت الحرب دون معالجة.
وأكد السفير أن السودان يحتاج اليوم إلى موقف دولي موحد يضع الأزمة في إطارها الحقيقي كقضية إنسانية تتطلب التدخل العاجل، مشيراً إلى أن ما يحدث في الفاشر وغيرها من المدن يتجاوز قدرة المؤسسات المحلية والإقليمية على التعامل معه، وأن الوضع سيزداد سوءاً ما لم يتم وضع حد لعمليات الدعم الخارجي للمليشيات، وما لم يمارس المجتمع الدولي ضغطاً حقيقياً يضمن حماية المدنيين ويوقف تمدد المجموعات المسلحة. وقال مفضل إن المجتمع الدولي إذا كان حريصاً على الاستقرار الإقليمي، فعليه أن يدرك أن السودان يمثل نقطة ارتكاز محورية في القارة، وإن انهياره سيخلق فراغاً أمنياً يصعب السيطرة عليه، خاصة في ظل وجود تنظيمات مسلحة تحاول استغلال الفوضى.
ولم يغفل السفير السوداني الإشارة إلى البعد الاقتصادي للأزمة، موضحاً أن استمرار الحرب وتدمير البنية التحتية وتهجير السكان يضع البلاد على حافة كارثة اقتصادية وإنسانية، وأن غياب أي تدخل دولي فاعل في هذا التوقيت سيجعل عملية إعادة البناء في المستقبل أكثر صعوبة وتعقيداً. وكرر مفضل دعوته إلى ضرورة فتح ممرات إنسانية آمنة تسمح بإيصال الإغاثة إلى المدنيين في المناطق المتأثرة، خاصة الفاشر التي تواجه حصاراً خانقاً وارتفاعاً كبيراً في معدلات النزوح.
وفي ختام لقائه، دعا السفير السوداني الدول الأوروبية ومجلس الأمن إلى تحمل مسؤولياتهم القانونية والأخلاقية تجاه الشعب السوداني، مشدداً على أن الوقت ينفد، وأن تأخير التحرك الدولي سيُسهم في تعميق الأزمة ويجعل الحل أكثر كلفة وتعقيداً. وأوضح أن السودان ليس مجرد ملف سياسي يمكن التعامل معه ببطء، بل بلد يعيش واحدة من أكبر أزماته التاريخية، وأن صوت الضحايا يجب أن يصل إلى كل منصة دولية قبل أن تتفاقم المعاناة أكثر. وأضاف أن الأزمة السودانية اليوم امتحان حقيقي لمدى التزام المجتمع الدولي بمبادئ حقوق الإنسان، وأن تاريخ الأمم لا يُكتب بالحياد في لحظات كهذه.
وتأتي تصريحات السفير في وقت يتزايد فيه الضغط على المجتمع الدولي لاتخاذ خطوات أكثر جدية حيال الأحداث المتصاعدة في الفاشر، خاصة بعد تحركات دولية تطالب بفتح تحقيق شامل في الانتهاكات، ودعوات لتعيين مبعوث أممي خاص لمتابعة الملف السوداني بصورة أوسع. كما تأتي هذه التحركات بالتزامن مع موجة إدانة واسعة لممارسات المليشيات المسلحة التي تهاجم المدن وتقطع خطوط الإمداد وتفرض حصارات طويلة على السكان، ما يزيد من خطورة الوضع الإنساني ويدفع بالمزيد من المدنيين إلى النزوح نحو مناطق أكثر أماناً. ووسط هذه التطورات، يبدو أن الرسالة التي أراد السفير السوداني إيصالها للعالم هي أن الأزمة لم تعد تحتمل مزيداً من التجاهل، وأن الشعب السوداني ينتظر من المجتمع الدولي موقفاً أكثر صرامة يضع حداً لسلسلة الانتهاكات التي تنسف استقرار البلاد وتدمر حياة المدنيين.
وفي ضوء هذا المشهد المعقد، تتجه الأنظار إلى ما سيصدر عن المؤسسات الدولية خلال الفترة المقبلة، وما إذا كانت التحركات الدبلوماسية ستتحول إلى إجراءات عملية، أم ستظل الأزمة السودانية تراوح مكانها في ظل التجاذبات الدولية وتضارب المصالح. وبينما ينتظر السودانيون بصيص أمل يخفف عنهم وطأة الحرب، يظل صوت الدبلوماسية السودانية اليوم بمثابة تحذير واضح من أن تجاهل الأزمة لن يؤدي إلا إلى مزيد من الفوضى، وأن الوقت قد حان لأن تتعامل الدول الكبرى بجدية مع واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في المنطقة.











