مقالاتالأخبار الرئيسية

هل رفع ترامب الراية البيضاء؟؟

النورس نيوز

هل رفع ترامب الراية البيضاء؟؟

بقلم: محمد الحسن محمد نور

في أروقة واشنطن، حيث يتردد صدى شعار “أمريكا أولاً” كترنيمة قديمة تعود إلى الحياة، أعلن دونالد ترامب عن رؤية جديدة للأمن القومي الأمريكي، وثيقة تمتد على ثلاثة وثلاثين إلى خمس وثلاثين صفحة، تحمل في طياتها تحولاً يهز أركان العالم.

ليست مجرد كلمات، بل خريطة طريق تعيد رسم حدود الإمبراطورية الأمريكية، تتخلى فيها واشنطن عن لقب “شرطي العالم” الذي حملته لعقود، وتختار بدلاً من ذلك التركيز على مصالحها المباشرة، كأنها تقول للعالم: لن أحكمكم بعد الآن، بل سأتاجر معكم.

هذا الشعار، الذي يتردد في صفحات الوثيقة كلقب ملكي، يحول السياسة الخارجية من هيمنة عالمية إلى صفقة تجارية، حيث يصبح النصف الغربي من الكرة الأرضية– أمريكا اللاتينية– محوراً أولياً، مع إحياء “مبدأ مونرو” القديم لتعزيز الهيمنة هناك، مواجهة مهربي المخدرات، وإزاحة القادة اليساريين، وربما السيطرة على موارد حيوية مثل قناة بنما. أما الصين، فلم تعد “عدواً” بل “منافساً”، وأوروبا تواجه انتقادات حادة، بينما يتلاشى الشرق الأوسط من قائمة الأولويات، كأنما يريد أن يمحو تاريخاً طويلاً من الصراعات بكل بساطة.

لكن هل يقصد ترامب ما يقول، أم أنها مجرد مناورة؟ الإجابة تكمن في أسلوبه الصادم، الذي يخلط الأوراق ويفتح الباب للتفاوض السريع، مدعوماً بدعمه لليمين المتشدد داخلياً وعالمياً. سياسات الهجرة الصارمة، مثل تعليق طلبات الإقامة والجنسية لمواطني تسعة عشر دولة غير أوروبية بحجة الأمن، ليست سوى مثال حي على ذلك؛ إجراءات تحظى بشعبية هائلة لدى قاعدته الانتخابية، وتُستخدم كسلاح للضغط على الحلفاء الأوروبيين، متهمة سياساتهم بالفشل. الديمقراطيون، في المقابل، لا يقفون مكتوفي الأيدي؛ يدافعون عن إجراءات بايدن الأخيرة للحد من الهجرة غير الشرعية، محولين هذه القضية إلى ساحة معركة رئيسية قد تتقوى مع مرور الزمن.

هذه الرؤية الجديدة لا تقتصر على الوعود؛ إنها تفسر بالفعل الأحداث الجارية، خاصة في أوكرانيا، حيث يتآكل التضامن الغربي. غياب واشنطن عن اجتماع الناتو الأخير خلق فراغاً قيادياً، يضع أوروبا في مواجهة مفتوحة مع روسيا دون المظلة الأمريكية التقليدية.

وفي ذات الوقت، يُرسل ترامب مبعوثين غير رسميين– مثل صهره وصديق ملياردير– إلى موسكو للتفاوض بشأن أوكرانيا، وسط خسائر مدوية وفضائح فساد تُضعف كييف. مما يشير لوجود صفقة سلام، قد لا تراعى المصالح الأوكرانية والأوروبية، سلام من منظور أمريكي، ينهىي الملف الذي يمثل عبئاً غير ضروري، حسب الرؤية الجديدة. أما دعوة الحلفاء لأن “يكونوا أقوياء بأنفسهم” فليست سوى إشارة إلى تقليص الالتزامات الأمنية، مما يجعل دعم أوكرانيا رهاناً خاسراً، ويُنذر بحتمية خسارة الناتو أمام موسكو إذا استمر التراجع.

في أمريكا اللاتينية، تعود المنطقة إلى صدارة الأجندة الأمريكية لأول مرة منذ عقود، حيث تُعلن الوثيقة صراحة عن العمل على تعزيز الهيمنة لمواجهة التهديدات، مثل تدفقات الهجرة والمخدرات، مع تدخلات محتملة ضد الحكومات اليسارية الذي بدأ بالفعل في فنزويلا. هذا التحول يُعيد رسم الخرائط الإقليمية، لكنه يثير تساؤلات عن الاستدامة في عالم يتسارع فيه التنافس العالمي.

ردود الفعل الدولية لم تتأخر؛ أوروبا، خاصة ألمانيا، ردت بحزم، رافضة “نصائح من الخارج” ومُنددة بالانتقادات الأمريكية. هذا الغضب يدفع القارة نحو التشكيك في الاعتماد على الحماية الأمريكية، كما يفسر زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بكين كخطوة جريئة لتنويع التحالفات في عالم يتجه نحو تعدد الأقطاب. روسيا، في الجانب الآخر، رحبت بتصنيف واشنطن لها كـ”منافس” بدلاً من “عدو”، فهي ترى في التراجع الأمريكي فرصة تاريخية للتوسع– سواء في ملفات مثل القاعدة البحرية في بورتسودان، (رغم نفي الحكومة السودانية،) أو في أوكرانيا. أما الصين، فتستقبل القادة الأوروبيين بأحضان مفتوحة، تؤيد رواية “نهاية عصر الهيمنة”، وتعزز موقعها كقطب بديل يملأ الفراغ الذي تخلفه واشنطن.

لكن هل هذه الاستراتيجية قابلة للتنفيذ؟

نجاحها يعتمد على قدرة إدارة ترامب على تجاوز عقبات داخلية هائلة: تبدأ من معارضة الكونغرس إذا سيطر الديمقراطيون على أحد المجلسين، وتمر عبر النظام القضائي، والبيروقراطية العميقة، والإعلام التقليدي الذي يُصورها كفوضى. التكلفة قد تكون باهظة: خسارة النفوذ العالمي لصالح بكين وموسكو، تفكيك التحالفات التي بنتها أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية مثل الناتو، وتآكل المصداقية كحليف موثوق، مما يدفع الشركاء– الأوروبيين والشرق أوسطيين على حد سواء– إلى نفض الغبار عن أيديهم.

ترامب قادر بالتأكيد على إحداث اضطراب فوضوي كبير وتحولات تكتيكية قصيرة المدى، لكن تغيير الاستراتيجية الأمريكية الكبرى (Grand strategy) يتطلب وقتاً طويلاً وإجماعاً داخلياً ليس سهلاً أو ربما غير ممكن فيما تبقى من عمر إدارة ترامب، مما يجعل النجاح بعيداً على المدى المنظور.

في النهاية، يرسم الإعلام اليوم مشهداً يعكس تحولاً أمريكياً نحو الانعزالية النسبية والمعاملاتية، يخلق فراغاً في القيادة الغربية يُسرع من وصول عالم متعدد الأقطاب. روسيا والصين تتنافسان على ملء هذا الفراغ، بينما تنصرف أوروبا– بمزيج من الغضب والقلق– إلى تأمين استقلالها الاستراتيجي وسط عاصفة جيوسياسية تهدد، تنذر أو تبشر بإعادة تشكيل العالم في شكل جديد، ليس كما نعرفه.

الأحد 7 ديسمبر 2025م

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى