
أمل أبو القاسم تكتب: السريحة.. دلالات المكان والزمان في رسائل البرهان الحاسمة
في خطابه أمس بمنطقة السريحة بولاية الجزيرة، لم يكتفِ رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان بتكرار خطاب الاستنفار الذي قال به قبيل أيام، بل ذهب خطوة أبعد، مُطلقاً رسالة سياسية عالية السقف: “لا هدنة.. لا تفاوض.. لا تسوية.. الحرب لن تتوقف إلا بنهاية التمرد”.
هذه العبارات، التي جاءت بصيغة تقريرية وحاسمة، تختلف في بنائها وسياقها عن التصريحات السابقة — سواء منه أو من مساعده الفريق أول ركن ياسر العطا — لأنها جاءت في لحظة إقليمية ودولية تتكثف فيها الدعوات لوقف إطلاق النار، أبرزها من الرباعية (الولايات المتحدة، بريطانيا، السعودية، الإمارات) ومن الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي.
المتابع لمسار التصريحات الدولية يلحظ أن الأسابيع الأخيرة شهدت ضغوطاً متزايدة على الأطراف السودانية للقبول بوقف إطلاق النار باعتباره “مدخلاً لحل سياسي شامل”.
هذه اللغة، التي تتبناها الرباعية بقوة، تتعارض مع ما يراه الجيش “خطراً وجودياً” يتمثل في منح المليشيا فرصة لإعادة التموضع واستعادة قوتها.
لذلك، فإن تصريح البرهان يمكن قراءته في سياق قطع الطريق أمام أي تفاوض يفرض من الخارج.
الرسالة هنا: القرار في يد القيادة العسكرية والشعب، لا في يد الوسطاء.
أيضا إعادة تعريف الحرب باعتبارها حرب دولة ضد تمرد، لا صراعاً بين طرفين سياسيين. وهي محاولة لإبطال سردية “الأطراف المتحاربة” التي تعتمد عليها المنظمات الدولية للضغط نحو تسوية سياسية.
البرهان يعلم أن الموقف الشعبي الرافض لأي تفاوض مع المليشيا يتصاعد بعد أحداث الفاشر وقبلها الجزيرة، وبالتالي فهو يرفع سقف الموقف الرسمي ليجعل أي دعوة خارجية للهدنة تبدو منفصلة عن الواقع السوداني.
اختيار منطقة السريحة بولاية الجزيرة مكاناً لإطلاق هذه الرسائل لم يكن محض صدفة. فالجزيرة — رمز الزراعة والمركزية الوطنية تعرضت لواحدة من أكبر الهجمات التي شنّتها المليشيا منذ بداية الحرب، وشهدت عمليات قتل ونهب واعتداءات واسعة على المدنيين لا تقل بشاعة عن ما ارتكب في الفاشر بيد ان توثيق كاميرات المليشيا لفت أنظار العالم هذه المرة.
كذلك ثمة دلالات سياسية ورمزية لاختيار السريحة منها تكريم نموذج الصمود الشعبي فأهالي السريحة تصدّوا للهجوم بوسائلهم الذاتية، وهو ما جعل المنطقة رمزاً للمقاومة الشعبية.
بتوجيه خطابه من هناك، يعزز البرهان هذا النموذج ويقدمه كرسالة لبقية الولايات “كما صمدت السريحة، يمكن للسودان كله أن يصمد.” كذلك ربما أراد الجيش إعادة الثقة للمواطنين بأن زمام المبادرة ما زال بيده، وأن الحرب لا تسير باتجاه تسوية قسرية بل باتجاه حسم.
فضلا عن إظهار أن الجيش موجود بين الناس وليس معزولاً كما درج على ذلك.
والظهور وسط مواطني الجزيرة — الذين دفعوا ثمناً باهظاً — يمنح الخطاب مصداقية ويُظهر تطابق موقف القيادة مع مزاج الشارع.
والأهم من كل ذلك في تقديري ان استخدام السريحة كنموذج للتعبئة الوطنية يبعث برسالة مفادها: “هؤلاء واجهوا المليشيا وانتصروا.. ويمكن للآخرين أن يفعلوا الشيء نفسه.” وأي مواجهة تلك التي استخدمت فيها العصي!. وهذه ليست رسالة موجهة للداخل فقط، بل أيضاً للخارج، وتحديداً للدول التي تضغط نحو التسوية: “الشعب يقاتل مع الجيش.. وبالتالي لن نقبل أي حلول سياسية تتجاهل هذه الحقيقة”.
إذن فتصريحات البرهان في السريحة ليست مجرد خطاب تعبوي، بل رسالة سياسية استراتيجية موجهة لعدة أطراف: الخارجية بأن السودان لن يقبل هدنة ولا تفاوض ولا حلولاً مفروضة من الرباعية أو غيرها. أيضا: المعركة وجودية ولن تتوقف إلا بالحسم الكامل.
ثم للجيش والمقاومة الشعبية: نموذج السريحة هو المثال الذي يُراد تعميمه على بقية الولايات.











