مقالات

الدم لا يوقّع التسويات

النورس نيوز

الدم لا يوقع التسويات

بقلم: رشان أوشي – النورس نيوز

التاريخ يُكتب بطرقٍ شتى، مرة بالبطولات والانتصارات، وأخرى بالهزائم والانكسارات، لكنّه في السودان اليوم يُكتب بالدم والتضحيات. والسؤال الذي يفرض نفسه في هذه اللحظة المفصلية: هل تختار القيادة السودانية أن تكتب فصلًا جديدًا في كتاب الانتصار، أم تسجّل سطرًا آخر في صفحات الخيبات؟

في هذه الأيام، تتسارع الخطى داخل أروقة اللجنة السياسية التابعة لمجلس السيادة نحو إطلاق عملية سياسية جديدة. لقاءات وتحركات تشهدها مدينة بورتسودان تجمع قيادات اللجنة بعدد من القوى الوطنية، في مسعى لإعادة ترتيب المشهد السياسي على أسس جديدة، تُشرك كيانات مثل “صمود” و”تأسيس”، وفق ما تفيد به مصادر مطلعة.

والمعلومات الأولية تشير إلى أن العملية المنتظرة ستكون تدريجية، تبدأ بوقف إطلاق نار لأسباب إنسانية، يعقبها حوار شامل حول شكل الدولة والدستور، ثم تُفضي إلى ترتيبات انتقالية تُدار تحت رعاية الرباعية الدولية. إلا أن هذا المسار – كما يرى مراقبون – لا يبدو جديدًا في جوهره، بل هو محاولة لإحياء الاتفاق الإطاري القديم الذي كان شرارة اندلاع الحرب في الخامس عشر من أبريل 2023، بنفس الوجوه والذهنية التي أنتجت الأزمة.

القيادة السيادية، وهي تنهمك في طبخ تسوية سياسية جديدة، تغفل – أو تتغافل – أن أي ترتيبات لا تضع القوات المسلحة والمقاتلين في مركزها ستكون مرفوضة شعبيًا، لأنها تتجاهل من دفع الثمن الحقيقي على الأرض. فالشعب السوداني، الذي ذاق مرارة الحرب وخسر أبناءه وكرامته، لم يعد يقبل أن تُصنع القرارات في الغرف المغلقة، بينما الجنود في الخنادق يواجهون الموت دفاعًا عن الدولة.

لقد تجاوزت القضية حدود الصراع السياسي بين النخب، وتحولت إلى معركة وجود بين جيش وطني يسعى لحماية بقاء السودان، وتشكيلات مسلحة تمارس التخريب باسم الشرعية. ولهذا، فإن أي اتفاق لا يُعلي من شأن الجيش بوصفه المؤسسة الضامنة لوحدة الدولة وسيادتها، سيكون فاقدًا للشرعية الأخلاقية والشعبية.

السلام المنشود لا يمكن أن يقوم على إنكار التضحيات أو تجاهل العدالة. فكيف يمكن بناء دولة جديدة بينما الجناة يتجولون بلا حساب، والضحايا ينتظرون إنصافًا يليق بدمائهم؟ الجرائم التي ارتُكبت من قتل ونهب واغتصاب وتهجير قسري وتجويع، ليست أخطاء عابرة بل سياسة ممنهجة، وتجاوزها يعني تحويل “التسوية” إلى غطاء لإفلات المجرمين من العقاب وإعادة إنتاج الأزمة.

الشعب السوداني لا يرفض السلام، بل يرفض سلامًا زائفًا بلا عدالة ولا كرامة. يرفض أن يُختزل مستقبله في صفقة سياسية تُبرم بين قوى خارجية ونخبٍ تبحث عن نفوذها في وقتٍ تعاني فيه الجماهير من التشريد والخراب. إن هذا الشعب الذي صمد رغم الألم يدرك أن السلام الحقيقي لا يُوقَّع بالحبر، بل يُكتب بدماء من دافعوا عن الوطن.

وفي النهاية، فإن التاريخ لا يرحم. سيذكر من وقف في وجه الخيانة، ومن خان الدماء التي روت تراب السودان. فإما أن تُكتب صفحات المجد على سطور الانتصار، أو أن يسدل الستار على فصلٍ آخر من فصول الخيبة.

الدم لا يوقّع التسويات، لكنه يرسم حدود الكرامة والسيادة.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى