
إنحياز رئيس الوزراء لزملائه الأمميين.. ووكيل الخارجية يدفع الثمن الباهظ
✍️ بقلم: محمد عثمان الرضي – النورس نيوز
في خضم التعقيدات التي تشهدها الساحة السودانية، برزت قضية جديدة أثارت الجدل في الأوساط السياسية والدبلوماسية، عقب قرار رئيس مجلس الوزراء البروفيسور كامل إدريس بإيقاف وكيل وزارة الخارجية السفير حسين الأمين عن العمل، بعد أيام من اتخاذ الوزارة قراراً وصفه كثيرون بأنه “وطني وشجاع” بطرد عدد من موظفي برنامج الغذاء العالمي من البلاد.
السفير حسين الأمين ليس كغيره من المسؤولين، فهو رجل منضبط إلى أبعد الحدود، يزن كلماته بدقة ويحرص على اختيار مفرداته كمن يسير على خيطٍ رفيع. حتى حين يظهر أمام الكاميرات، تبدو عليه علامات التحفظ والحذر، وكأنه يخشى أن تُفلت منه كلمة تُحسب عليه. لم يُرَ يوماً مبتسماً، وكأن الجدية جزء من ملامحه الدائمة، لا يفارقها إلا حين يمارس سنة السواك.
في آخر مؤتمر صحفي، وُجه إليه سؤال مباشر حول أسباب طرد موظفي برنامج الغذاء العالمي، فجاء رده مقتضباً وواضحاً: “الطرد تم بموافقة الأجهزة المختصة والمعنية بالملف بعد دراسة ومتابعة دقيقة لتحركات الموظفين المطرودين”.
كان ذلك التصريح كافياً ليُحدث صدى واسعاً، لأنه للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب، تصدر وزارة الخارجية قراراً يُعبّر فعلاً عن سيادة الدولة السودانية، ويضع حداً للتدخلات الأممية المتزايدة في الشأن الداخلي.
لكن ما لم يكن متوقعاً هو أن تأتي العقوبة من أعلى هرم الجهاز التنفيذي نفسه.
فبدلاً من تكريم وكيل الخارجية على شجاعته، فوجئ الرأي العام بقرار إيقافه عن العمل، وهو ما اعتبره كثيرون دليلاً على أن رئيس الوزراء انحاز إلى زملائه السابقين في المنظمات الدولية، وتجاهل رمزية القرار الوطني الذي اتخذه وكيل الوزارة.
قد يتذرع البعض بأن البروفيسور كامل إدريس لم يكن على علم مسبق بقرار الطرد، لكن من يعرف طريقة عمل وزارة الخارجية يدرك أن مثل هذا القرار لا يمكن أن يصدر دون تنسيق تام مع الجهات العليا. ومن الصعب تصديق أن دبلوماسياً مخضرماً بحجم حسين الأمين يتجاوز الإجراءات الرسمية في ملفٍ بهذه الحساسية.
يبدو جلياً أن وزارة الخارجية تُدار من خارجها، وأن قراراتها النهائية ليست بيد قيادتها الفعلية. فالتقاطعات الرأسية والأفقية، كما يقول الرضي، تُكبّل عمل الوزارة، وتحرمها من ممارسة دورها السيادي بحرية واستقلالية.
لقد عانت الخارجية طويلاً من عدم الاستقرار الإداري منذ اندلاع الحرب، وتعاقب عليها وزراء ومسؤولون دون أن تتاح لهم بيئة عمل مستقرة، بسبب التدخلات المستمرة من جهات نافذة تتحكم في أدق تفاصيل الملفات الدبلوماسية.
في المقابل، فضل رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان النأي بنفسه عن تفاصيل الجهاز التنفيذي، مفضلاً التفرغ لإدارة معركة الكرامة في الميدان العسكري.
لكن الميدان الدبلوماسي لا يقل خطورة عن ساحات القتال، وربما يفوقها في التعقيد، لأن الحرب السياسية في المحافل الدولية لا تُدار بالسلاح، بل بالكلمة والموقف والمبدأ.
إن ما حدث لوزارة الخارجية يعكس حالة الارتباك في توازن السلطات، ويطرح تساؤلات حول موقع القرار الوطني داخل مؤسسات الدولة. فحين يُعاقَب مسؤول بسبب قرار وطني، تضعف الهيبة وتُصاب السيادة في مقتل.
إن الانضباط الذي يتميز به السفير حسين الأمين لم يكن ضعفاً، بل كان انتماءً صادقاً للدولة، ورغبة في حماية صورتها أمام العالم.
اليوم، وبعد قرار الإيقاف، يخشى كثيرون أن تكون الرسالة الأعمق هي أن القرارات الوطنية قد تُكلف أصحابها ثمناً باهظاً، وأن زمن المبادرة داخل المؤسسات الرسمية أصبح محفوفاً بالمخاطر.
إن معركة وزارة الخارجية ليست معركة أشخاص، بل معركة كرامة وطن، في مواجهة تدخلات أممية متزايدة وضغوط خارجية مستمرة.
ولعل ما جرى يكون درساً في أن الميدان الدبلوماسي لا يقل شراسة عن ميادين الحرب، وأن من يدافع عن سيادة السودان بالكلمة والقرار، يستحق التكريم لا الإقصاء.











