مازال صوت البشير أمام الأجهزة الإعلامية السودانية مخاطباً الشعب السوداني يرن في آذاننا وأسماعنا مفاخراً بمصداقيته (الكذوبة) و يقول للناس (حصل يا جماعة أنا كذبت عليكم قبل هذا اليوم ؟) ، و مازال خطاب حمدوك أمام جميع القنوات الفضائية العالمية مخاطباً الجمعية العمومية للأمم المتحدة يرن في آذاننا و يقول : سيتم تخصيص فصل كامل للحريات والحقوق ، ومعالجة التشوهات التي لحقت بها و إتاحة حرية الرأي و الرأي الآخر متمثلة في حرية الصحافة، ووعد وعداً قاطعاً و مغلظاّ بأن لن يسجن صحافي بعد اليوم في السودان .
خطاب البشير كان خطاباً داخلياً من أجل استعطاف ودغدغة عواطف الشعب السوداني حينما كانت تبرز إليه بعض الأزمات وقتها ، وأما خطاب حمدوك فقد كان خطاباً عاماً يريد به أن يظهر الجوانب المشرقة للديمقراطية والحريات التي اتت بعد الثورة أمام العالم أجمع، وكلاهما كذبا على الناس، ولكن الفرق بينهما أن البشير كان يتحدث إلى شعبه في الشأن الداخلي فقط، كما إنه لم يقطع فيه أية وعود كهذه المسألة، وإنما كان يستفهم من أجل أن يتأكد من مصداقيته لنفسه، ولكن حديث حمدوك كان يحمل رسائل مهمة للعالم أجمع عن السودان الجديد بعد الثورة، حيث وعد وعداً قاطعاً بأن يحفظ حرية الرأي و الرأي الآخر، مؤكداً بذلك حرية العمل الصحفي، ولكن هذا الوعد لم يصمد كثيراً ، فبمجرد وصوله من اجتماع جمعية الأمم المتحدة نجد سلطات الأمن قد قامت بممارسة العنف مع بعض الصحافيين عند مدخل صالة كبار الزوار بمطار الخرطوم ، وهذا يعد أول انتهاك بواح لحقوق الصحافيين يكذب وعد الرجل الذي قطعه للعالم، إلا أنه استدرك خطأه و سرعان ما قدم الرجل اعتذاره ووعد بعدم التكرار ، ولكن على العموم تعتبر هذه الفعلة المشينة أول تمرين فاشل كان من شأنه اختبار جدية مثل هذه الوعود البيزنطية التي يمكن أن تؤكد أو تنفي مصداقية هذا الرجل تجاه وعوده الكاذبة التي فتق بها آذان العالم .
بالأمس تداولت الأسافير مقطع فيديو يشير إلى اعتقال الصحافى احمد على عبد القادر اثناء حديثه على الهواء مباشرةً مع قناة التاسعة الفضائية، حيث شهد العالم أجمع على ذلك السلوك اللاأخلاقي الذي لا يتوافق وعهد الحريات، وإذا صح ما تناقلته الأسافير فذلك يؤكد حجم ضخامة الكذبة التي كذبها حمدوك أمام جمعية الامم المتحدة ، إذ يعد هذا المقطع من أكبر الفضائح التي سوف تهزم الدولة ، مهما كانت الدوافع التي أدت إليه حتى إن لم تكن الحكومة هي التي من قامت بهذا الأمر ، و ما هو معلوم بالضرورة أن ثوب الستر ثوب جميل يضربه الله على عباده ، ويستحي أن ينزعه عنهم من أول معصية حتى يتم تكرارها أو تعمد المجاهرة بها، حيث أن هذا الانتهاك الذي حدث إن لم يكن متعمداً لغرض ما يريد به فاعله تشويه صورة الدولة، فذلك يعتبر تحدياً سافراً للحريات ، وهذا سوف يعيد للمتلقي على مستوى العالم الصورة الذهنية القديمة لبوليسية الدولة ، وأما إذا كانت الحكومة هي الفاعلة فذلك يعني أن هذا السلوك ليس هو الأول ، لأنه أمر خطير في قمع الأصوات، مع إنني لم أجد حتى الآن سبباً مقنعاً يجعل الدولة تضع نفسها في هذا المحك الذي أحرجها أمام العالم ، و لكن بالرغم من ذلك فهي تعتبر فضيحة تصعب معالجتها ، حتى إذا لم تكن الحكومة هي الفاعلة ، مع العلم أن الله لن يفضحهم من أول مرة، والشاهد على ذلك ان تلك القصة المروية عن سيدنا عمر بن الخطاب حينما أراد رجل أن يدرأ عن نفسه الحد في جريمة ارتكبها فقدم دفوعاً عن نفسه متذرعاً بأن هذا الجرم هو الأول الذي يقع فيه خلال حياته، فرد عليه سيدنا عمر رضي الله عنه بقولته المشهورة : لا والله ، ولكني لقد علمت أن الله لا يفضح عبده من أول مرة.
على العموم إذا صحت هذه الرواية أو لم تصح فقد أدخلت الحكومة في حرج مؤسف مع العالم و مخجل من قبيح هذا الفعل المنسوب إلى هذا الحدث ، فهي المتهمة الأولى والأخيرة ، لأن محتوى هذا الفيديو سيؤدي إلى تشويه صورة موقفها من الحريات (المدعاة) ولهذا يجب عليها الخروج من قبوها الذي تخفي فيه نفسها دائماً في مثل هكذا أفعال، وذلك من أجل توضيح الحقيقة للرأي العام وتفنيد ملابسات هذا الفيديو، كما يجب عليها ألا تتخفى خلف هذا الصمت المميت الذي عرفت به في مثل هكذا قصايا ، فيجب عليها إدانة واستنكار هذا العمل، إن كانت هي الفاعلة أو لم تكن، والكشف عن الملابسات التي أدت إليه حتى يعرف العالم من هو الفاعل و لماذا فعل ذلك ، بالرغم من أن قناعتي الشخصية في مثل هذه الأمور اتوقع أن يكون مثل هذا الفعل يعبر عن سلوك فردى ناتج عن شخص مريض ولهذا يجب التعامل معه بنفس شدة وقع هذه الحدث بما يتناسب وحجم الفضيحة التي نتجت عنه و خصوصاً أن أمد الستر الذي يسدله الله على عباده يستمر لسنوات طوال ما لم يكن هنالك تحد سافر يجر إلى الفضيحة ، ولو أن ليست هنالك أمور مدبره تسوقها الدولة في الخفاء لما أتت هذه القصة وبهذه الإحداثيات المشينة التي يمكن ربطها ومقارنتها بما ورد في قصة قوم سيدنا موسى عليه السلام حينما منعوا من الغيث بسبب رجل كان يبارز الله بالذنوب والمعاصي اربعين سنة، فتاب الرجل و نزل المطر فقال موسى لله من كان هو يا ربي ، فقال له: يا موسى يعصيني اربعين سنة فسترته وتريدني أن افضحه وهو تائب، ولهذا إن لم تكن الدولة هي الفاعلة فعليها وفوراً أن تفك طلاسم هذا الأمر و تقديم الجناة للرأي العام وكشفهم للناس وتوضيح ذلك للجميع، وإلا فإن حمدوك قد كذب على نفسه في المقام الاول و على العالم أجمع بما إدعاه من حريات الرأي في هذا البلد المكلوم بأفعال نخبه.