أتاح لنا عملنا في مجال الصحافة فرصة التعرف على عددٍ مقدرٍ من القضاة ووكلاء النيابة، بسبب كثرة ترددنا عليهم في قضايا النشر والمعلوماتية.
ما زلت أصر على أن رؤساء تحرير الصحف السياسية؛ يعدون الأوفر استفادةً من ثورة ديسمبر الخالدة، لجهة أنهم كانوا يعانون الأمرين من كثرة بلاغات النشر المرفوعة ضدهم على أيام العهد البائد.
كنا نتردد على المحاكم والنيابات على مدار أيام الأسبوع أحياناً، بسبب بلاغات متتالية ظلت تُرفع ضدنا من قبل مسؤولين يهرعون إلى النيابات والمحاكم للشكوى تبعاً لأي كلمة نقد، كما تولى جهاز الأمن قيد عددٍ مقدرٍ من البلاغات ضد الصحف السياسية، حتى بعد أن عاقبها مراراً بالمصادرة.
كانوا يتركون الصحف حتى تفرغ من الطباعة، ثم يرفعون كامل الكمية في (دفار) يتبع للجهاز، ويمنعون توزيعها، قبل أن يرموها للناشر في اليوم التالي، كي يضطر إلى بيعها كراجع (بالكيلو)!
سياسة بالغة القبح، وعقوبة خسيسة وكريهة، تخاصم الدين والدستور والقانون والأخلاق، ويُتبع فيها نهج (الضرر والضرار) عمداً، لتأديب الناشرين ورؤساء التحرير، ودفعهم إلى ممارسة رقابة ذاتية على صحفهم، وحضهم على التخلص من الكُتاب المزعجين، ممن ينتقدون أي إخفاق للحكومة.
لم ينج من تلك العقوبات المؤلمة عدوٌ ولا صليح، فقد عوقبت صحيفة (ألوان) وأوقفت عن الصدور أكثر من عامين، كما اعتقل رئيس تحريرها الزميل الأستاذ حسين خوجلي لوقتٍ طويل، فاستحق لقب (رهين المحبسين) لأنه عانى ويلات السجن في العهدين.
بعد ألوان أوقفت صحيفة التيار بقرار مباشر من الرئيس المخلوع، وظلت محبوسةً أكثر من ثمانية عشر شهراً، قبل أن تعود بأمر المحكمة الدستورية، وتوقف من جديد، ويتعرض الحبيب عثمان ميرغني إلى محاولة اغتيالٍ آثمةٍ، حدثت له داخل مقر صحيفته، حينما اقتحمها (شبيحة) قيل إنهم يتبعون إلى الأمن الشعبي، وأوسعوا عثمان ضرباً بالأيادي وأعقاب البنادق، حتى كادوا يفقأوا عينه.
تم إيقاف (اليوم التالي) لأجلٍ غير مسمى مرة، واستمر احتجابها شهراً كاملاً، وصودرت أكثر من ثلاثين مرة على مدى سبع سنوات، ونالت صحيفة (المجهر السياسي) عقوبة إيقافٍ امتدت ثلاثين يوماً، مع أن ناشرها كان محسوباً – عند المعارضين – على التيار الإسلامي.
امتدت تلك العقوبات الغاشمة إلى القنوات الفضائية، وتعرض برنامجا (حال البلد وحتى تكتمل الصورة) اللذان يقدمهما الزميل الطاهر حسن التوم إلى الإيقاف عدة مرات.
حتى الصحف التي كانت محسوبة على التيار الإسلامي والمؤتمر الوطني لم تنجُ من المصادرات، ونذكر جيداً كيف تم منع أربع عشرة صحيفة من الصدور في ليلة واحدة، بسبب خبر اجتماعي لا قيمة له.
الغريب في الأمر أن الجهاز كان يصر على قيد بلاغات ضد الصحف التي تنشر ما لا يعجبه بعد أن يعاقبها بالمصادرة، ثم يلاحقها بقضايا أخرى في المحاكم، ساعياً إلى معاقبتها مجدداً، وتبعاً لتلك الحالة (الكربة) تنوع ظهورنا أمام النيابات والمحاكم، وتوثقت صلتنا مع القضاة ووكلاء النيابات.
من ذلك الباب تعرفت على وكيليْ النيابة، مولانا صهيب عبد الرحيم، ومولانا الدكتور أحمد النور الحلا، وأشهد أنهما شابان خلوقان، بالغا التهذيب، يؤديان عملهما بمنتهى الإتقان والتجرد، ويكفلان للمتهمين كامل حقوقهما الدستورية والقانونية، ويوفران العدالة لطلابها بكل أريحية، ويطبقان شعار (الخصم العادل) كأفضل ما يكون.
لكل ما سبق قابلت خبر اشتباكهما لفظياً وبالأيدي وما تردد عن اعتداء صهيب على الحلا باستغرابٍ شديد، وأدركت أن النيابة دخلت بأمر خلافاتها المتصاعدة نفقاً أسود، سيؤثر على أدائها ومهنيتها ونظرة الناس إليها.
نتوقع من الحلا وصهيب أن يبادرا باحتواء الخلاف قبل أن يستفحل أكثر، وننتظر من النائب العام أن يتعامل مع نزاعه المزعج مع نادي أعضاء النيابة بروية وحكمة، كي لا تتعرض سمعة النيابة ومكانتها إلى المزيد من الضرر والتشويه، بأخبار الصراعات والمشاجرات ذات (البلنجات الخطافية)، والبيانات التي تزخر بأسوأ الاتهامات وأقذعها.