الكتابة عن محجوب شريف عصيّة فى تذكر فقده الأليم،الرجل حالة قيمية ثرية بصفات السوداني (الصميم ود البلد)،كان ناطقا بكل جميل فى سماتنا الموروثة وتقاليدنا السمحة ، مثل محطة للنقاء الاسمر الموصول بالامل والحكمة وحسن الظن فى الغيب والضمير،عاش فى كهف اسطوري متواضع شيّده بالحب والقصائد والدموع والمواقف الباهرة ، ظل معتدا بانسانيته وسجاياه وافكاره ومبادئه ورغم ذلك كان بسيطا متواضعا ينسج قصائده من خيوط الطواقي وسعف النخيل ،فتأتي محتشدة بهديل الحمائم وحداء الحزانى وأحلام الصبايا معطرة بدموع اليتامى ومؤيدة بأخلاق الرجال .
قصائد ود شريف تخرج من الشارع والقلب مجرتقة ومعبّأة برائحة الضريرة والصندل وموسّمة بوجع الشوارع وفرح البيوت وجسارة النضال .
كان محجوب ابنا بارا بهذا الشعب متحدث رسميا باسم وجدانه واحلامه ووجعه واشجانه،ملأت أشعاره دفاتر العشاق قبل ان تصبح حضنا لليتامى وملاذا للمحرومين واشواقا للعابرين الى نهايات الروح الشفيفة بحثا عن مبدأ ونموذج ومثال.
محجوب شريف كم (طرق قوافي) سكنت ذاكرة الشعب الذي كان يرتمي في احضان قصائده عند احلك الظروف،كانت الحياة تتنفس ما يكتب وهويحدثها صباح مساء عن ( الحلم الجماعي والعدل الاجتماعي والروح السماوي والحب الكبير).
بالامس نضب جدول الحليب، ورحل شيخ الطريقة الشعرية الخاصة الى الرفيق الاعلى، كان شيخا وله مريدين يتحلقون حول قصائده المشحونة بزهد المتصوفة وعفة الاولياء الصالحين، بل كان وليا يسكن ضريحا تسوّره الاخلاق وتعمّره المروءة وتباركه اشراقة سرمدية جعلت من حياته مددا وزادا للذين هم لا يملكون..
محجوب شريف فى تقديري الخاص شاعر برتبة انسان،تستأثر الحكمة المنظومة بناصية نزفه فتمنحنا افكارا جديرة بالبقاء، وهو كذلك فيلسوف يرى العالم من خلال روحه الثرية فتأتي القصائد فارعة ونابهة وضاربة التاثير، وهو كذلك المصلح الاجتماعي الذى حمله النقاء الى مراتب الصادقين فجعل منه (علامة) بائنة فى رحلة توهّج أبدي ملأ ذاكرة الناس وهم ينصبّونه شاعرا للامة ذاخرا بقيمها ونابضا بحلمها وناطقا باشواقها لعالم خيّر ديمقراطي يلامس الثريا ويتحلى باخلاق المدينة الفاضلة.
ترى من سيرثي محجوب شريف ويأتي بقصيده تتجاوز قوافيه الفارعات، سرق الموت آخر ما تبقى فى ايدينا من عطر فضاح كم اشجانا واسعدنا بغزلياته وكفاحه ومراثيه،كان راكزا حتى اغماضته الاخيرة فى برجه الانساني النبيل يقدّم فروض الولاء والطاعة للشعب الذى ظل يدعو له بحماسة تقول (إنت تلقى مرادك والفي نيتك)، محجوب لم ينس ان يودّع هذا الشعب بمداد من الوريد فى آخر نزف له قبل ان يعبر الى الضفة الاخرى:
أنت الأول
وكل العالم بعدك تاني
يا متعدّد وما متشدّد
مامتردّد.. ما متردّد
ملء جفوني بنوم متأكد
بل متجدد تنهض تاني
ولما تعاني.. بعاني واعاني..
رحم الله محجوب شريف بقدر ما افاض من قصائد وقواف اسعدت الملايين، ونسال الله ان يتقبله فارسا للكلمة واميرا للانسانية وملكا على اخلاصنا للمجد والقصائد..سنظل نردد ما طال القلب يخفق..
وين عمي البيطرق جوايا القوافي
ياكرسي وسريرو هل مازلت دافي
يامرتبتو امكن في مكتبتو قاعد يقرا وذهنو صافي
روحك كالحمامة بترفرف هناك
كم سيرة وسريرة من حولك ضراك
والناس الذين خليتهم وراك
وقلوبن حزينة بتبلل ثراك
ابواب المدينة بتسلم عليك
والشارع يتاوق يتنفس هواك…
اخيرا: الدمعة لو سالت قشيها يامريم
رحمك لله يا محجوب شريف..
صحيفة اليوم التالي