قد يبدو قرار إعفاء المواطنين من سداد رسوم إيجار عدّاد الكهرباء للقطاع السكني زهيداً في قيمته المادية، لكن قيمته المعنوية كبيرة بلا شك، لجهة أنه يسير عكس التيار العام الذي اختطته الحكومة الحالية لنفسها، بتضخيم وزيادة أسعار كل السلع الاستراتيجية والرسوم الحكومية أضعافاً مضاعفةً، وتطبيقها على الفور بقسوةٍ غير مسبوقة، وغلظةٍ في القلب لم تراعِ معاناة وظروف فقراء باتوا يمثلون غالب أهل السودان.
لم تمر تلك الزيادات بخانات الآحاد أو العشرات، بل قفزت إلى المئات مباشرةً، في الكهرباء والبنزين والجازولين والغاز والوقود والخبز وكل الخدمات الحكومية، بما في ذلك خدمات وزارة الداخلية وبقية مؤسسات الدولة، ووضح منها أن الحكومة راغبة في تغطية عجز موازنتها من جيوب مواطنيها بأي نهج، وأنها تطبق شعار (تدفع بس)، حتى ولو كلفها ذلك إحالة غالب أهل البلاد إلى مستحقين للزكاة.
لذلك ذكرنا أن القرار الذي أصدره المهندس خيري عبد الرحمن، وكيل قطاع الكهرباء في وزارة الطاقة حوى بعض الرأفة في زمن قسوة القلب وغياب الرأفة، واستبطن إنصافاً لمواطنين تفرض عليهم وزارته عقود إذعانٍ ظالمةٍ، تأكل بها أموالهم بالباطل، إذ إنها تلزم الراغبين في توصيل الكهرباء للمباني الجديدة بتحمل كلفة التوصيل كاملةً، بما في ذلك قيمة الأعمدة والأسلاك والكيبلات والعدّاد والطبلون الداخلي والخارجي وحتى منصرفات الفريق العامل في التوصيل، قبل أن تفرض عليهم التنازل عنها نهائياً لشركة توزيع الكهرباء.
يطلب المواطن توصيل الكهرباء لداره فيقال له: (داك آخر عمود، مطلوب منك شراء كذا عمود وكذا متر من السلك والكيبلات)، ثم يحسبون له قيمة التوصيلات والخدمة كاملةً، بما فيها حوافز الفريق العامل في التوصيل (مع أن أفراده يؤدون عملاً يقبضون عليه أجراً شهرياً من الدولة)، ويتم ذلك كله بما لا يحتمل المفاصلة ولا يقبل التفاوض، فيدفعها عن يدٍ وهو صاغر، لجهة أنه لا يمتلك خياراً آخر، ثم يلزمه عقد الحيف أن يتخلى عن كل ما سدد قيمته من حر ماله للشركة، بظلم بائن، لا يستطيع له دفعاً.
قبل قرار خيري كان المواطن يستضيف عداداً دفع كامل قيمته في منزله، ثم يسدد عنه إيجاراً شهرياً للشركة، والصحيح أن تدفع الشركة أموالاً للمواطن عن عدادٍ تتملكه وتضعه داخل حدود ملكيته، أو تقدم له حسماً شهرياً مقابل الخدمة التي يوفرونها لها، وليس العكس!
تمت مضاعفة تعرفة الكيلوواط للقطاع السكني ست مرات، وارتفعت قيمته للقطاعات الزراعية والصناعية والخِدمية بنسبة ألف في المائة، ولم تنعكس تلك الزيادات القاسية إيجاباً على الخدمة، بل تزامنت مع انقطاعٍ دائمٍ لكهرباء تُسدد قيمتها بنظام الدفع المقدم، حتى في شهور الشتاء، التي تشهد في العادة استقراراً في التيار.
إذا أراد المهندس خيري أن يواصل السير على درب التخفيف والإنصاف للمواطنين المستفيدين من الخدمة؛ فعليه أن يصدر قراراً آخر، يوقف به استغلال شركة التوزيع للمواطنين، ويلزمها بتحمل قيمة التوصيل الخارجي، لجهة أن مكوناته تمثل جزءاً من البنيات الأساسية المملوكة للشركة، أو يلزمها بتعويض المواطن عنه بكميةٍ موازيةٍ لسعره من الكهرباء، تُقّدم له كل شهرٍ حتى يستوفي كامل ما دفعه للشركة.
أوقفوا أكل أموال الناس بالباطل، وأنصفوا الناس في عقود الإذعان الباطلة الظالمة، حتى في قطاع الاتصالات الذي تمارس شركاته نصباً راتباً على المواطنين بزياداتٍ وأتاواتٍ مهولةٍ تدخل على تعرفة المكالمات الهاتفية والإنترنت، وتوضع بلا سابق إعلان، وتطبق على الفور.
نشكر وكيل الوزارة ونقول له (فيك الخير يا خيري)، ونطالبه بالمزيد، ونتمنى أن تحسِّن شركات الكهرباء أداءها، وتعالج قصورها البائن، كي توقف قطوعات الكهرباء التي أحالت حياة الناس إلى جحيم.