للعطر افتضاح _ حُكم (قرقوشة)! _ د. مزمل أبو القاسم
عندما شرعت الحكومة في شراء القمح من المزارعين بالسعر التركيزي كل عامٍ كان هدفها من تلك الخطوة تحفيز المزارعين وليس غصبهم ولا إرهابهم، وتشجيعهم على زراعة المحصول الاستراتيجي الأول للدولة بسعرٍ يفوق الذي يقدمه لهم السوق، وليس أخذه منهم عنوةً بأسعارٍ بخسة.
كان الشعار المرفوع يتحدث عن دعم زارع القمح السوداني بدلاً من توجيه الدعم إلى مزارعٍ من أستراليا وروسيا وكندا وغيرها من الدول التي نستورد منها القمح بالدولار، مع الاجتهاد لتوطين السلعة الاستراتيجية، وتمزيق فاتورتها الباهظة المُنهكة لخزانة الدولة.
يبدو أن تلك المفاهيم غابت عن ذهن والي الولاية الشمالية، البروفيسور آمال عزَّ الدين، التي قلبت الآية، وشرعت في تحويل الدعم إلى خصم، والسند والتشجيع إلى وعيدٍ وتهديد، عندما أصدرت أمراً للطوارئ، قضت فيه بحصر شراء القمح المُنتج في ولايتها على البنك الزراعي السوداني، وبالسعر التركيزي المعلن من الحكومة، مع حظر نقل أي كمياتٍ منه إلى خارج الولاية إلا في حدود الانتفاع الشخصي.
ليت القرار الأحمق الذي جافى العقل والمنطق اقتصر على حظرٍ يتعارض مع الغرض المراد بلوغه من إعلان السعر التركيزي، لأنه اشتمل على تهديدٍ ووعيدٍ شديدٍ، يقضي بمعاقبة أي مزارعٍ يجرؤ على مخالفة (حكم أم تكو) بالسجن عشر سنوات، والغرامة بما لا يقل عن خمسين ألف جنيه، ومصادرة كميات القمح المنقولة، علاوةً على مصادرة وسيلة النقل لصالح حكومة الولاية الشمالية!
هكذا وبقرارٍ يفيض ظلماً وتجنياً ودكتاتوريةً ساوت البروف آمال المُنتج المجتهد مع المُهرِّب المجرم، وصنّفت القمح في خانة الممنوعات، لتضعه في درجةٍ واحدةٍ مع الخمور والمخدرات والمتفجرات!
الحكومة التي ترغب في احتكار القمح بالقوة حررت أسعار الخبز، بأحجيةٍ مثيرةٍ للسخرية، ومفارقةٍ يستعصي فهمها على الإدراك.
كيف تحتكر السلطة القمح المُنتج بكهرباء مُحررة، تمت زيادة أسعارها للمزارعين عشرة أضعاف، وبوقودٍ مُحرر، ارتفعت أثمانه خمسة أضعاف؟
أين العدالة في هذا القرار الذي يفيض ظلماً ورعونةً وتسلطاً؟
كيف تتشدق الحكومة بالحديث عن الحض على الإنتاج، وتشجيع المزارعين على التوسع في زراعة القمح وهي ترهبهم وتهددهم بالسجن، وتعلن أنها ستأخذ محصولهم غصباً؟
أريد لتطبيق حالة الطوارئ الاقتصادية حفظ الأمن الاقتصادي للدولة، ومنع المهربين والمضاربين من الإضرار بالمواطنين، وليس تهديد المنتجين بالويل والثبور، وتخويفهم بمصادرة حصائل غرسهم، حال إقدامهم على ممارسة حقهم الطبيعي والمشروع ببيع محصولهم بأعلى سعرٍ ممكن.
قد نتفهم تشدد حكومة الولاية الشمالية في إلزام المزارعين الذين نالوا تمويلاً من البنك الزراعي بتسديد ما عليهم، لجهة أنها دعمتهم وقدمت لهم بعض مدخلات الإنتاج، وحدود ذلك التشدد ينبغي أن لا تتجاوز إلزامهم بردّ قيمة التمويل نقداً أو عيناً، لكننا لا نتفهم أن يسري (حكم قرقوشة) الجديدة على من زرعوا قمحهم من حر مالهم، وأنتجوه في مزارع خاصة، تُروى محورياً، أو بطلمباتٍ تعمل بكهرباء مُحررة، أو وقود مُحرر.
التناقض ذاته أتى من مجلس الوزراء الذي أعلن الشيء ونقيضه، عندما أكد شروعه في إنشاء بورصة وطنية للذهب، ثم نقض غزله بالحديث عن احتكار البنك المركزي لشراء الذهب.
إنشاء البورصة يعني إطلاق حرية التداول، وتمكين المنتجين والراغبين في السلعة من الحصول عليها بسعرٍ مجزٍ، وذلك لن يكون متاحاً حال إصرار الحكومة على احتكار شراء الذهب بواسطة البنك المركزي.
هذا لا يستقيم أبداً مع ذاك، بل يتعارض معه بالكامل.
فلتحزم الحكومة أمرها وتحدد وجهتها، وعليها أن توضح للناس هل ترغب في تطبيق سياسة التحرير الاقتصادي بالابتعاد عن المتاجرة في السلع الاستراتيجية أم تريد الاستمرار في الاحتكار، إذ لا يُعقل أن تناقض نفسها بتحرير ما في يدها، واحتكار المملوك لغيرها.
لتعلم البروف آمال أن مزارعي ولايتها لن يتخلوا عن قمحهم للحكومة ما لم تمنحهم السعر الذي يرضيهم، ولن يستجيبوا لطوارئها الظالمة الغاشمة، ولو نصبت لهم المشانق، وساقتهم إلى السجون زُمراً، لأن المبدأ الذي يجب تطبيقه في ذلك الموضع ينحصر في عبارة (القال حقي غلب)!