نتابع الجهود المقدرَّة التي يبذلها وزير المالية الجديد لمعالجة مشاكل الاقتصاد، بسعيٍ محمودٍ، يستهدف دعم المنتجين، وتذليل العقبات التي تعترض سد . مبيلهم، لحضهم على المزيد من الإنتاج.
كذلك شهدت الأيام الماضية اجتهاداً حثيثاً لحض المغتربين على إرسال تحويلاتهم عبر المنافذ المصرفية الرسمية، وقد سرنا أن تبلغ حصيلة بنكٍ واحدٍ أكثر من عشرة ملايين دولار أمريكي في أربعة أيام.
من شأن تلك الجهود المخلصة أن تسهم في تحسين مناخ الأعمال والاستثمار، وأن تقيل عثرة الاقتصاد، لكن المصيبة تكمن في أن الحكومة تفعل الشيء ونقيضه في آنٍ واحد، حيث تجتهد في ترميم بنية الاقتصاد بيدها اليمنى، ثم تهدم ما بنته وتدمر ما عمّرته باليسرى!
مثال على ذلك ما حدث لرجل الأعمال البارز والمستثمر الوطني الناجح معاوية البرير، الذي تمت مصادرة ثلاثة من مشاريعه الزراعية والصناعية بحججٍ واهيةٍ وقراراتٍ هوجاء، قبل أن تتم مصادرة شركة (ميكو) لصناعة الدواجن بالطريقة نفسها قبل يومين.
تُعدُّ (ميكو) من أكبر الشركات الوطنية العاملة في مجال صناعة الدواجن، حيث تنتج (50%) من مجمل إنتاج الدواجن في البلاد، وقد ولدت بشراكةٍ ناجحةٍ، جمعت شركة هجليج العالمية، وشركة مواسم (التي تأسست سنة 1996)، وبدأ مشروعها بأربع حظائر فقط، بنيت بتمويل بنكي، قبل أن يتوسع العمل ليسهم في صيانة الأمن الغذائي للدولة، ويؤدي إلى تخفيض أسعار الدواجن بنسبٍ مقدرة.
مؤسسةٌ ضخمةٌ وناجحةٌ، وُلدت من رحم القطاع الخاص، ولم تسهم الدولة في إنشائها بأي مليم، نمت وتطورت ليصل عدد العاملين فيها إلى أكثر من (1300) فرد، إضافةً إلى أكثر من ستمائة شخص آخرين، يتم توظيفهم عبر شراكاتٍ متنوعة، كيف تتم مصادرتها من دون حكمٍ قضائيٍ.. وقبل تسليمها صورة من قرار المصادرة كي تتمكن من مناهضته بالطرق القانونية؟
أي عدالة تلك؟
أنابت (ميكو) عن الدولة في ضمان وتمويل صغار المنتجين للدواجن، وظلت تقدم لهم ما نسبته (86%) من قيمة التمويل الكلي، ولا تأخذ منهم إلا (50%) من الأرباح، مع أنها توفر لهم الكتاكيت والأعلاف والأدوية والتطعيم والدعم الفني بتدريب وتأهيل أطقم تلك الشراكات.
من إسهاماتها المرموقة أنها تولت تدريب حوالي أربعين في المائة من مجمل العاملين في مجال صناعة الدواجن بالسودان، ويحسب لها أنها مارست مسؤوليتها المجتمعية على أفضل ما يكون، بتشييد المدارس والمراكز الصحية، وتقديم خدمات الماء والكهرباء للقرى المحيطة بمشروعها.
إذا كانت حُجّة المصادرة تنحصر في أن حكومة ولاية الخرطوم دخلت شريكاً في (ميكو) وباعت نصيبها لبقية المساهمين لاحقاً؛ فنذكر أن تلك الخطوة تمت في العام 2005، حينما اقتنت الولاية (19%) من مجمل أسهم الشركة، مقابل مليون جنيه تقريباً.. ثم خرجت منها لاحقاً، بعد أن حققت أهدافها من الشراكة، واشترت (ميكو) أسهم الولاية بعد تقييمٍ منصفٍ، بحوالي 22 مليون جنيه (بأرباح تفوق العشرين ضعفاً).
كنا سنتفهم دواعي القرار إذا اقتصر على استرداد النسبة التي كانت مملوكة للولاية في الشركة، لا أن تتم مصادرة الشركة كلها، بقانونٍ لم ترد فيه كلمة (مصادرة) مطلقاً.
يقولون: رأس المال جبان، والمستثمرون لا يوظفون أموالهم في بلادٍ تتم فيها مصادرة الأعمال والممتلكات والاستثمارات بمعزل عن أي أحكام من القضاء.
من شأن تلك القرارات الظالمة العشوائية أن تدمر كل ما تجتهد الدولة في بنائه حالياً، وستؤدي إلى إجهاض مساعي وزير المالية الرامية إلى انتشال الاقتصاد من وهدته الحالية.
ما تفعله لجنة التفكيك (مقطوعة الرأس) لا يحوي تفكيكاً للتمكين، بل يُعدُّ تفكيكاً للاقتصاد كله، بإشاعة الظلم وتنفير المستثمرين وإفساد مناخ الأعمال.
الفاسد يُقاد إلى المحاكم، ويدان فيها، ويعاقب على أفعاله بأحكام قضائية، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته.
أوقفوا مساخر لجنةٍ شهدت على نفسها بالظلم، ودمغها رئيسها بالتشفي.. وامنعوا مصادراتها العشوائية، قبل أن تحكم على مساعي الحكومة الرامية إلى تحسين أحوال الاقتصاد بالموت الزؤام.