كان على الدكتور جبريل إبراهيم، وزير المالية الاتحادي أن يوجه شكره إلى مضيفي شركة بدر للطيران (هاني عبد الرؤوف وهديل معاوية)، وليس لإدارة الجمارك ولا أمن مطار الخرطوم في أعقاب ضبط (18) كيلو من الذهب داخل طائرة شركة بدر المتجهة إلى الإمارات.
الحقيقة تؤكد أن المهربين أفلحوا في تجاوز كل الإجرءات الأمنية بالمطار، ونجحوا في إيصال الذهب إلى جوف الطائرة، التي كانت على وشك التوجه إلى المدرج بعد إغلاق أبوابها، توطئة للإقلاع، عندما أقدم المهرب على دخول حمام الطائرة مرتين، قبل أن تسقط منه إحدى السبائك أمام ناظري المضيفة هديل وزميلها هاني، اللذين سارعا إلى إخطار الطيار الذي أوقف عملية الإقلاع من فوره، وأخطر سلطات المطار بالواقعة.
حدث ذلك مع أن الطائرة خضعت للتفتيش مرتين بواسطة مسؤولي الجمارك وأمن المطار، بتدقيق المقاعد المخصصة لرجال الأعمال في المرة الأولى، وتفتيش المقعد المخصص للمتهم في المرة الثانية.
عطفاً على تلك الحقائق فإن إدارة جمارك مطار الخرطوم وسلطات الأمن فيه؛ كانت تستحق التقريع والمحاسبة على تفريطٍ مشهود، حدث مراراً، ليفقد البلاد كميات كبيرة من الذهب الذي يمثل أغلى ثروات البلاد.
صحيح أن شرطة الجمارك وإدارة أمن المطار أفلحتا في إحباط العديد من جرائم التهريب، لكن الثابت أيضاً أن كميات الذهب المهربة عبر المطار نفسه تفوق المضبوطة بكثير.
يحدث ذلك مع أن هذا المطار يضم أعداداً مهولة من القوات النظامية، بدءاً من الشرطة بكل تشكيلاتها (جمارك وجوازات وسجل مدني ومباحث وغيرها)، مروراً بجهاز المخابرات الوطني، والجيش باستخباراته العسكرية، وانتهاءً بأمن المطار نفسه.
الواقع يؤكد أن تكثيف الوجود الأمني (بالأنفار) أتى خصماً على الحالة الأمنية للمطار، وساعد على تفشي التهريب بدلاً من منعه.
عدد العاملين في مطار الخرطوم بالآلاف، لعشرات الشركات، وارتفاع العدد يصعّب الضبط، ويحوّل المطار إلى منفذ رئيسي للتهريب، الذي يتم أحياناً عبر عمال النظافة، وفي أحيان أخرى عبر عمال الشحن وأفراد من الشركات العاملة في المطار، وفي بعض المرات يتم عبر أفراد من القوات النظامية.
لشركة بدر نفسها سابق تجربة مع واقعة مماثلة، تورط فيها نظامي يعمل داخل المطار في تهريب سبعة كيلوجرامات ونصف الكيلو من الذهب، وتم ضبطه بواسطة ضابط أمن شركة بدر للطيران واثنين من المضيفين.
بالطبع فإن التهريب ليس حصرياً على المطار، لأنه يتم عبر منافذ حدودية تربطنا مع دول أخرى، تتساهل مع المهربين، وتمكنهم من المرور إليها طمعاً في ما لديهم.
ذكرنا مراراً في هذه المساحة أن الإجراءات الأمنية وحدها لا تكفي لتحجيم التهريب حتى بالنسبة إلى السلع الاستراتيجية، ناهيك عن أغلى سلعة في الوجود، وأن محاربة تلك الآفة يتم بالسياسات الراشدة، وليس بالقبضة الأمنية وحدها.
نتوقع من الدكتور جبريل إبراهيم أن يتبنى التوجه الرامي إلى إنشاء بورصة للذهب في الخرطوم، بمبادرة لا تكلف شيئاً، بل ستعود على البلاد بمكاسب هائلة، لأنه ستحفظ للسودان كامل ثروته من المعدن الأصفر.
تم عرض الفكرة على وزيرة المالية السابقة، بمبادرة مدعومة من بورصة دبي للذهب، ولم تتحمس لها، ونتوقع من جبريل أن يرعاها، ليوقف بها الاستنزاف الذي تتعرض له البلاد بتهريب أغلى ثرواتها.
سيستمر التهريب وستتنوع حيل المهربين لتسريب المعدن الأصفر، ولن يتوقف إلا إذا توافق المنتجون والمصدرون على سعرٍ مجزٍ، يمنعهم من المغامرة، ويقضي على دوافع التهريب من جذورها، وإلى ذلك الحين نقول لهم ردوا الفضل إلى أهله وكرِّموا المضيفين وليس سلطات الجمارك ولا أمن المطار، كي لا تنطبق علينا مقولة (الخيل تجقلب والشكر لي حماد)!