أخيراً انفرجت أسارير من انتظروا تشكيل الحكومة الجديدة أملاً في أن تصلح حال البلاد، بعد أن جمع فرقاؤها شتات أنفسهم ونزاعاتهم المتصاعدة، وتوافقوا على ما يكفي لتمكين الرشيد سعيد من إذاعة أسماء خمسة وعشرين وزيراً، يُنتظر منهم أن يمتلكوا جسارة القادة ومهارة السحرة، كي يواجهوا مهمةً تبدو في غاية العُسر والمشقة.
في يوم إعلان الحكومة والأيام التي سبقتها كان طوفان الاحتجاجات يَعُم البلاد، بمظاهراتٍ عاتيةٍ انتظمت معظم مدن الولايات احتجاجاً على تفشي الغلاء والفقر والجوع وانعدام السلع والخدمات الأساسية.
لم يهاجم المحتجون محلات الصاغة والذهب، ولا مكاتب شركات الاتصالات، ولا البنوك ولا الشركات التجارية، ولا بوتيكات الأقمشة والملابس الجاهزة، ولا محلات بيع العطور، بل داهموا البقالات والمخابز والمطاعم ومخازن السكر والدقيق والزيوت، بحثاً عن ما يسد الرمق، ويطرد غول الجوع الذي جعل دموعهم تسيل ألماً، وأمعاءهم تقرقُر وجعاً في عام رمادة وقحط (قحت).
تلك كانت فاتورةً باهظةً، لم يتهيأ لسدادها من أثقلوا على الناس بسياسة التحرير التي ما راعت للفقراء، ولا وضعت حساباً لمعاناة محدودي الدخل الذين هدّ الغلاء والتضخم حيلهم وأعياهم، فعجزوا عن توفير أبسط مقومات العيش الكريم لأنفسهم وأطفالهم.
كان موجعاً بحق أن تنشر الأسافير صوراً لتلاميذ في مرحلة الأساس وهم يقتحمون المتاجر والمخابز، ويجمعون بقايا الدقيق من الأرض، في الأبيض والرهد والقضارف ونيالا والفاشر، بعد أن عضهم الجوع بنابه الذي لا يرحم، وانتاشهم الغلاء بسهمه الذي لا يخطئ.
تحققت نبوءة القراي عندما أكد أن فتح المدارس في ظل الظروف الحالية سيؤدي إلى اندلاع المظاهرات تبعاً لتفشي الغلاء وانعدام الخبز والوقود والمواصلات.
دخلت الحكومة الجديدة في (فتيل) جهزته لها سابقتها التي لم تحصد إلا الفشل، ولم تكنز إلا الخيبة، ولم تقدم لمواطنيها إلا الجوع والغلاء، بقسوةٍ غير مسبوقةٍ، توقعنا لها أن ترتد على حكام البلاد، بثورةٍ عاتيةٍ للجياع، بدت ملامحها في الظهور بالولايات.
إذا كانت الأحوال في الخرطوم سيئةً فالأحوال في الولايات أسوأ ألف مرة، حيث لا أثر هناك للخبز ولا البنزين ولا الجازولين ولا الغاز ولا الكهرباء، وفيها تشتد وطأة الفقر والغلاء، لتطحن المُعدمين وتدفعهم إلى الخروج إلى الشوارع للتعبير عن يأسهم وغضبهم على حكومةٍ لم تقدم لهم إلا وجع القلب وخواء البطن والجيب.
حذرناهم من الإثقال على الناس، ودعوناهم إلى الترفق بِهم، وعدم وضع المزيد من الأحمال على أكتاف الفقراء المهدودة وظهورهم المقوسة.. ذكّرناهم بأن تطبيق وصفة الصندوق المتوحشة بمعزل عن برامج موازية تستهدف تقليص معاناة الفقراء سترتد وبالاً على البلاد، وتقضي على نسيجها الاجتماعي، وتهدد أمنها القومي، فلم يستبينوا النصح حتى ضُحى الغدِ.
اتسع الفتق على الراتق، وتفجر الغضب الأعمى في الأطراف، واندلعت ثورة الحرافيش في الولايات، لتنذر بدخول البلاد نفقاً أسود من الفوضى والسلب والنهب وضياع الأمن وانعدام السكينة.. بعد أن صار باطن الأرض وظاهرها سواءٌ لملايين المحرومين من أبسط مقومات العيش الكريم.
نخشى أن لا تجد الحكومة الجديدة متسعاً من الوقت لمعالجة الأزمة الطاحنة، وأن لا تحظى تهاويم حمدوك ووعود جِبْرِيل بمن يستمع إليها، بعد أن نفد صبر الناس وتلاشت قدرتهم على الاحتمال، واستشرى الفقر بينهم، وتضاعفت معدلات الغلاء بطول البلاد وعرضها، وأنشب الجوع مخالبه على غالب أهل السودان.
لن نرجم بالغيب إذا ما ذكرنا أن ما حدث في بورتسودان والقضارف ونيالا والفاشر وكسلا والرهد والأبيض يحمل لافتة (تُشاهد غداً.. في الخرطوم)!
اللهم لطفك.. حسبنا الله ونعم الوكيل.