همس الحروف _ لماذا تمنع الناس يا مناع؟! _ الباقر عبد القيوم علي
التهديد، سلاحٌ خطيرٌ جداً يعبر عن الفعل الذي يقوم به أحد الناس بغرض توصيل رسالة تحذيرية قوية، كإنذار مبكر من الشخص المهدد بغرض رفع درجة الاستعداد عند الشخص المراد تهديده وتحذيره من أمر معين لرفع ضرر يتوقع حدوثه حال توفر الأسباب التي تم التحذير منها، أو للتعبير عن إعلان شر مُحتمل وقوعه بلهجة التحدي، يريد به الشخص الذي أصدر التحذير منع خصمه من فعل أمر معين يخشى وقوعه، ولذلك يكون التحذير في درجته بحجم الضرر الذي سوف ينتج حال استمرار الشخص المُراد تحذيره في عدم الالتفات لما حذر منه، فالتهديد يعتبر سلاحاً ذو حدين، إما أن يردع الشخص المهدد في لحظته الذي اغترف الأمر المعين، أو سيقع ذلك التهديد بمكان من الاستفزاز مما سيُحوِّل الأمر إلى دعوة للتحدي الذي ستتشكّل تجاه ذلك كقوة مضادة بحجم الاستفزاز.
في أواخر أيام الإنقاذ، قام الفاتح عز الدين أحد قادة حزب المؤتمر الوطني المحلول بتهديد الثوار حال خروجهم بلهجة استفزازية تخللها وعيدٌ بقطع رؤوس من يشارك في الاحتجاجات، وهذه اللغة لا تتماشى وأدبيات الشعب السوداني، مما أدى ذلك إلى ردة فعل قوية جعلت كثيراً من الذين لم تكن في نيّتهم الخروج أن يخرجوا وبعنف شديد تحدياً له، لأن تهديده كان يحمل في طياته استفزازاًّ صارخاً للثوار، بالرغم من أنه سرعان ما تراجع عن ذلك الوعيد وادعى أنه كان يقصد بذلك منتسبي الحزب الشيوعي فقط، وكأن أعضاء الحزب الشيوعي من كوكب آخر ولا يحملون الهوية السودانية، فكان الأجدر به أن يعالج ما دعا الناس للخروج ضد حكومته، عِوضاً من أن يهدد الناس ويتوعّدهم، فدائماً مثل هذه التهديدات تأتي بردود فعل عكسية ضد مراد المهدد، وهذا هو الشئ الذي قام برفع الحس الثوري لدى المحتجين وقتها، ومنحهم جرعة قوية من التحدي بحجم أكبر من التهديد نفسه، مما شكّلت عندهم قوة باطشة ساقت الى هزيمة عنجهية الإنقاديين هزيمة نكراء.
وها هو اليوم يتكرّر نفس السيناريو والمشهد وبنفس الإحداثيات من صلاح مناع عضو لجنة إزالة التمكين تجاه المحتجين، الذين أخرجتهم المسغبة والتردي الاقتصادي والانفلات السلعي الذي قلّب حياة الشعب إلى جحيم، نتيجة أزمة اقتصادية غير مسبوقة في تاريخ السودان والتي ضغطت على معاش الناس فوق طاقة الاحتمال، مما نتج عنها انهيار كامل للجنيه السوداني مقابل العملات الأخرى نتيجة التخبط في السياسات بصورة عامة، وزامنت ذلك حالة من السيولة الأمنية غير معهودة بصورة أرعبت الشعب، وكذلك حالة السيولة السياسية وتضارُب الأقوال والأفعال نتيجة الخلل في الحاضنة والمحضون، فكيف لعضو في لجنة التمكين أن يصدر تهديدات كهذه، في بلد يُفترض أن يكون ديمقراطياً، وهو ليس برئيس قضاء أو مدير جهاز أمن أو قائد شرطة ولا يحمل أي صفة قانونية أخرى تجعله يتفوّه بمثل هذه التهديدات وإن قيد حديثه تجاه منتسبي حزب المؤتمر الوطني، فلا يجوز له التعميم المطلق في ذلك كما يجري به هواه.
هذه هي الأزمة الحقيقية التي يعيشها هذا الشعب المكلوم في بلد المتناقضات، فنجد فيها التضارُب في كل الاختصاصات التي تتجاوز حدود الاختلاف في كل شئ وتخرج من أدب الخلاف وخلاف الأدب، وأميز ما يميز القائمين على أمر هذه الدولة هو الإفراط في الحديث، والتفريط في الواجب، ولهذا تكون النتائج معكوسة الفوائد، فما أسقط الإنقاذ هو الاستفزاز والتطاوُل على هذا الشعب الأبي مع سياسة التهميش التي كانت ممنهجة، مما قادت البعض لحمل السلاح ومحاولة أخذ حقوقهم بالقوة، فإذا عبّر الشعب عن نفسه تجاه أمر معين، فإن الساسة يعتبرونه مسيراً، وأن هنالك جهات أجنبية أوعزت له بذلك ولا يُعطى حق القوامة على نفسه أبداً، وما يميزه عن غيره من شعوب العالم أنه شعبٌ لا يقبل أن تكسر أنفه مهما بلغ به أمر الحاجة مبلغه، وما يحدث الآن من حراك فهو عبارة عن هبة شعبية احتجاجية عفوية غير مؤدلجة ضد تهميش صوته الذي ينادي به في آذان أوقرها حُب الذات والإثنيات والشلليات والسلوكيات المتشبعة بالأنانية، فلا نجد أحداً من الذين يتربعون على كراسي الحكم لديهم الاستعداد لسماع صوته، وكما يسعى بعض ساسته على تغبيش رؤية الأمور الواضحة أمامه وذلك بنسب كل أمر يقوم به إلى العمالة والارتزاق وخصوصاً الذي يكون نابعاً من الرفض للسياسات العرجاء التي أتت بالانهيار الاقتصادي الذي حاصر الجميع من كل صوب، فلا أحد منهم يواسيه في مصيبته أو يعزيه في جلل مصابه، ولهذا يجب على مثل هذه الأصوات التي تُصدر مثل هذه التهديدات ذات القبح الأسود أن تخرس، وإلا سوف يخرسها هذا الشعب المعلم عبر غضبته، فلم تكن الثورة من أجل استبدال مستبد بآخر أو أجندات بغيرها، وعلى الجميع أن يضعوا ذلك في حسبانهم، والتأيخ خير شاهد على ذلك.. فاعتبروا يا أولي الألباب.