الشاب الطموح أبو القاسم برطم مثال يُحتذى به، فاستطاع أن يقفز بالزانة لينتزع مكانتة بقوة صعوده على سلم السياسة بالرغم من أنه ليس له أي خلفية سياسية، وهو رجل يتمتع بثقة عالية في نفسه وصاحب ذكاء خارق وشخصية قيادية من الطراز الأول والفريد وصاحب حضور ملفت جداً للنظر، فاستطاع بكل هذه المقومات النادرة والمُميزة وفي فترة زمنية وجيزة أن يبني لنفسه قاعدة جماهيرية عريضة من خلال فريق عمل بسيط يساعده عند الحاجة، فبالرغم من أنه غير مؤدلج ولكنه استطاع أن يخترق صفوف جميع المؤدلجين بحضوره الأنيق ويثبت حضوره بينهم، لأنه يتحلى بروح الرجل السياسي المحنك وله طريقته البسيطة في فن القيادة التي يدعمها بروح الدعابة والتواضع والإنسانية العالية، وكذلك فهو صاحب نخوة ونشاط دائم، وله المَقدرة العالية في كسب الآخرين بتواصله المحمود مع كل فئات هذا الشعب بدون فرز، فهو رجلٌ متسامحٌ ومتصالحٌ مع نفسه والآخرين ودائماً نجده يدعو إلى وحدة الصف السياسي والديني من أجل بناء الوطن دون إقصاء أحد على أثر خلفية انتمائه الجهوي أو الديني أو الأيديولوجي بحيث يكون المعيار الأول لذلك النزاهة والاستقامة وعدم الفساد، وأن يستبعد منها كل الذين تطولهم شبهات الفساد، بحيث أن أي جريمة ارتكبها الشخص وتعبر عن المسؤولية الفردية لا يجب تعميمها على الجميع بسبب خلفياتهم السياسية التي ينحدرون منها .
إنه (برطم) رغم أنف من أبى، فجّر بصوته الساحة السياسية والاجتماعية واستطاع تسجيل اسمه في أرفع سجل يحمل أسماء الساسة في السودانيين، فهو ذلك الشباب الطموح والقومي الذي تشبع بروح الوطنية العالية، وخرج من رحم الطبقة الضعيفة والمغلوبة على أمرها ومن صلب هذا الشعب المعلم، إذ عاش طفولته وبدايات شبابه في قشلاق البوليس بميدان عقرب ببحري في بيت جده فكان نعم الحفيد لنعم الجد، فهو يُشكِّل بسمته هذا ملح الأرض وحال السواد الأعظم من السودانيين، فهو رجل عصامي منذ نشأته الأولى كما ثبت ذلك في سجل تاريخ حياته، ولذلك اجتهد في بناء نفسه بنفسه فبدأ بنحت صخرة نجاحه بكلتا يديه، فحرم نفسه من كل ملاذات الدنيا ونعيمها وسخر جل وقته للتحصيل الأكاديمي الذي كان يسنده بالعمل في أوقات فراغه مخلداً بذلك أروع قصة كفاح يعقبها نجاح تقف إنجازاتها الشاهفة والناطقة شاهدة على ذلك، وقد يطول شرحها في هذه المساحه الضيِّقة، حيث ذهب مع أسرته في معية والده إلى ليبيا التي كان مغترباً فيها، فحاله كحال أبناء جميع المقيمين في ليبيا، فدرس علوم الفيزياء في جامعة الفاتح والتي كان فيها من النوابغ والذين يتحلون بخُلُق رفيع فنال حب الجميع بين زملائه السودانيين والعرب، فلم يكمل دراسته حين وافت المنية والده وهو في المستوى الثالث في لحظة صمت كانت قاسية عليهم في بلاد الغربة، وليس مهماً هنالك أحد من الأهل، غير جيرانهم، ولذلك كانت لحظات عصيبة يصعب عليهم تحمُّلها لأنهم كانوا في بواكير حياتهم فأظلمت الدنيا أمام أعينهم، ولكن عناية الله تكون دائماً حاضرة في مثل هكذا حالات من أجل حفظهم وصونهم، فوجد نفسه يتقدم الصف ليكون هو القائد والمسؤول الأول عن رعاية أسرته، ويسد بذلك مكان والده وكانت هذه فرصة لتحمُّل المسؤولية وبداية إعداده لشخصيته القيادية، فالتحق بوطيفة استطاع منها اكمال دراسته وإعالة أسرته، وفي أثناء ذلك، بدأ في تجارة صغيرة بدايتها كانت في مجال الدفاتر المدرسية التي كان يقوم بشرائها ثم يتم إرسالها الى السودان ليتكسب منها حلالاً حتى فتحت عليه مصدر زرق جيد كان نواة لعمل تجاري فيما بعد .
من دائرة دنقلا، سطع نجم هذا القائد العصامي الفذ، الذي استطاع أن يبني لنفسه مجداً ويتصدر الجلوس في مقدمة كراسي الساسة في هذا البلد دون الاعتماد على أي حاضنة سياسية أو تكتل اثني أو تجمع قبلي، فلقد أتى من رحم هذا الشعب وكان من ملح أرض السودان السمراء، بعيداً عن تقاطع الأيديولوجيات والجهويات فنازل الأسود في عِرانها حتى خرج منتصراً عليهم وهازماً لمشروعهم بفوزه الكاسح وذلك بتغلبه على كل أشكال التزوير التي يمكن أن تحدث في مثل هكذا انتخابات يكون خصمه فيها أحد رموز الحزب الحاكم ذو السلطة البوليسية في ظل دولة شمولية، فثابر وصمد أمام كل الإغراءات التي عُرضت عليه وصارع كل الإرهاب الذي مورس في حقه الذي كان بغرض النيل منه، فاستطاع بعزيمة لا تعرف الهزيمة أن يكسر كل رماح بطشهم التي تم تصويبها نحوه، فلم يثنِه ذلك عن الاستمرار قُدُماً في مسيرته نجاحه التي كان فيها واثق الخُطى وثابت العدو صوب هدفه، عارضاً برامجه التي أقنع بها مواطني دائرته بكل شفافية، ولهذا استطاع وبجدارة أن يجتث شجرة المؤتمر الوطني من جذورها بجدارة بفوزه الكاسح على مرشح الحزب الحاكم في تلك الدائرة التي كانت شبه مغلقة على المؤتمر الوطني، فاستطاع ان يحول كل سلبيات خصمة بذكاء منه منقطع النظير إلى إيجابيات انصبت في مصلحته، ولقد تخطى جميع الحواجز التي وُضعت أمامه بهدف عرقلة سيره، وكان أشدها المساومات التي يصعب الصمود أمامها ويسيل لها لعاب الكثيرين من ضعاف النفوس في مثل هكذا حالات، مستخدماً في ذلك ذكاءه الحاد ومستصحباً حضوره المميز وسطوع نوره الذي بزغ بصدقه الذي كان معهوداً فيه، ومتوكلاً قبل كل ذلك على الله وحوله وقوته، فتمكن من تغيير مسار النتائج السلبية إلى صالحه، وكان ذلك من واقع حب الناس له الذين التمسوا فيه كل مقومات القائد المحنك، فأثبت ناجحه بإظهاره لكل مقدراته ومهاراته التي أعد بها خطته في حملته، ولقد لعب في ذلك تميزه بروح الحماسة والمثابرة والبساطة التي استطاع بها أن يكون قريباً من قلوب الناس، ولذلك تفوّق بها على خصمه، الذي حاول استخدام الإعلام السالب في تحطيمه بضرب مسيرته بعد فوزه في الانتخابات مُستخدمين في ذلك أقذر الوسائل التي حملت على العاطفة (الدينية) بإشاعة أنه رجل ضد الشريعة الإسلامية وذلك بسعيه في إقامة علاقات مع الكيان الصهيوني، محاولين بذلك أن يخلقوا له بلبلة في وسط جمهور دائرته، ولكنه استطاع بثباته في مواقع المسؤولية أن يُحوِّل كل تلك الممارسات السالبة التي مُورست في حقه إلى نقاط موجبة شكّلت شخصيته القيادية وميزت له بصمته بشكلٍ يختلف عن غيره من الساسة .
لقد كان معارضاً شرساً لنظام الإنقاذ من داخل وخارج مجلس الشعب منذ دخوله إليه وحتى آخر يوم من عمر الإنقاذ وكان لا يغمض له جفنٌ حتى لا يترك لهم شاردة أو واردة تتعلق بالمصلحة القومية العامة، حتى يتوقف عندها ويقوم بقتلها بحثاً، وكان من الذين اتهموا نظام الإنقاذ في قمة جبروته وفي وجه قادته وفي العلن وأمام كاميرات القنوات العالمية وليس من خلفهم: بأن الحزب الحاكم يمتلك كتائب ظل تقوم بقتل المتظاهرين، وكان غيره من قادة الحرية والتغيير الحاليين الذين يدّعون البطولات الآن لا يتجرأون على توجيه مثل هذا الاتهام لحكومة الإنقاذ في الخفاء، فضلاً عن العلن، وكان من الذين طلبوا استيضاح وزير الداخلية بمجلس الشعب بخصوص هذا الشأن الذي راح ضحيته نَفَرٌ من خِيرة شباب السودان، وكذلك كان من أقوى المطالبين بمحاكمته وقتها لأنه فشل في الرد على جميع الأسئلة التي تم توجيهها إليه باعتبار أنه هو المسؤول المباشر، حتى قام الحزب الحاكم بتحريك دعوى جنائية في حقه وطالبوا بإسقاط الحصانة عنه حتى تتم محاكمته، في الوقت الذي كان معظم قادة الحرية والتغيير يكنون كل الاحترام والتبجيل لبعض قادة المؤتمر الوطني وعلى رأسهم صلاح قوش، وبعد نجاح الثورة، تم نسيان وقفة هذا الرجل الجبارة مع الثورة وانحيازه معها، ولكن كعادة أهل حاول البعض شيطنة هذا الرجل صاحب المواقف القوية والمباديء الثابتة التي كانت تقوم على احترام الإنسانية وحمل همومها، فتم اتهامه بما يسمى (الهبوط الناعم) بافتراض أنه أقرب إلى الحركة الإسلامية في أغرب اتهام من نوعه في حق الرجل الذي يشهد له جميع المراقبين للساحة السياسية بعكس ذلك، وإن الذين صنعوا هذه الفرية من قادة الحرية والتغيير كانوا هم الأقرب إلى بعض أفراد النظام السابق بصورة لا ينكرها إلا مكابر .
يظل برطم هو الأحق بهذه الثورة منهم والأجدر بها في قيادة هذه المرحلة من الجميع، والتي تعتبر أشد المراحل تعقيداً في تاريخ السودان الحديث، وذلك لفهمه الواسع في الكيفية التي يمكن أن يدار بها السودان، ولرؤيته الثاقبة في الحلول والمعالجات، ولقربه من حس المواطن البسيط بالرغم من أنه يُحسب من الطبقة العليا، إلا أنه رجل تربى في قشلاق ويعرف طعم ومعنى المعاناة والبساطة والبسطاء، وكما لم يفصل نفسه يوماً ما من جميع هموم هذا الشعب لأنه قريب منهم، وكذلك يمتلك رؤية تفتقرها جميع قوى الحرية والتغيير، وذلك ليس من باب تلفيق التهم عليهم أو إثارة الفتن، لأن ذلك كان باعتراف السيد دولة رئيس الوزراء نفسه أمام الإعلام الذي أقر فيه بذلك وشهد العالم أجمع بأن حاضنته السياسية تفتقر البرامج والرؤية، فهل ما زال هنالك عقلاء يمكن أن يستفيدوا من تجربة هذا الرجل الذي ظل يدافع وما زال عن هذا الوطن المكلوم بكل ما يملك، فهل هنالك عقلٌ يتدبّر؟ .