أصبحت الجريمة في شوارع الخرطوم من المظاهر المألوفة التي يجب التصالح معها، وخصوصاً أنها باتت منظمة وتُشكِّل مصدر رزق لشريحة لا يُستهان بها من المواطنين، حيث صارت تحدث في صور متعددة من الصعب التعرُّف على الأساليب التي يتم بها استدراج الضحايا وهذا ما يسوقنا إلى وجوب اصطحاب كل التدابير الواقية التي تقي الفرد من أن يكون ضحية لهؤلاء المجرمين الذين صنعتهم الحالة الاقتصادية المتردية التي يمر بها شعبنا.
في ظل حالة السيولة الأمنية التي تعيشها البلاد والتي كانت نتيجة الضعف الذي تُدار به الدولة الذي ساق البلاد والعباد إلى مسغبة في هذه الأيام العجاف وحالكة السواد على الصعيد السياسي المتخبط، والاقتصادي المُنهار، حيث ارتفعت نسبة التضخم بما يقارب 270% وما زال المؤشر يقفز بالزانة يوماً بعد يومٍ، ومازالت الحكومة تُجمِّل وجهها بمسح مساحيق التاريخ لتجد العذر الذي هو أقبح من الذنب، لتُبرِّر به مدى فشلها الذريع في كل الملفات التي وضعت عليها يدها، إلا ملف العلاقات الخارجية الذي أحرزت فيه تقدماً ملحوظاً وتشكر عليه، إذ نجدها دائماً متعللة بأنها قد ورثت هذه الأوضاع المتأزمة من حكومة الإنقاذ، ما زالت الحكومة تكذب حاضنتها السياسية والعكس صحيح، وما زالوا يكررون هذه الأسطوانة المشروخة التي عفا عليها الدهر ومَلّ الشعب من سماعها، ومازالوا يرفعون نسب الفقر بعجلة متسارعة، مما أدى إلى تطور الجريمة كوسيلة للكسب السريع، وكما ارتفعت مع ذلك نسبة التسوُّل بصورة غير مسبوقة وهذا ما يسوق المتابع للوضع، أن يُوقن بأن الدولة تسوق شعبها إلى واقعٍ مجهولٍ، وسيقذف بالشباب إلى أحضان احتراف الجريمة المتخصصة في صور ستُجسِّد الخيال الذي رسمه الكاتب الفرنسي المبدع موريس لوبلان الذي استطاع بملكته الجبارة، صناعة شخصية اللص الظريف أرسين لوبين، وكل الشواهد تؤكد ذلك.
لقد حدثت أمامي جريمة، ولولا وجودي كشاهد عيان لها وحدثت كل تفاصيلها أمام أعيني، لكذبت الراوي الذي يقوم بروايتها لي ونسبتها لراوي القصة البوليسية الفرنسي موريس لوبلان، لأن أحداثها تنم عن عبقرية أكبر من حجم عقول من قاموا بتنفيذها وهذا يُعد نذر شؤم لمستقبل الشباب، ولقد دارت أحداث هذه القصة في منطقة سوق بحري – بسوق الخضار تحديداً – وضحيتها فتاة في أواخر العشرينات من عمرها نزلت من سيارتها التي كانت تصفها بالقرب مني وكانت تحمل معها طفلتها الصغيرة، فرجعت ومعها طبق بيض كانت تحمله بيدها اليمنى وتحمل طفلتها بيدها اليسرى وهي تمسك بهاتفها المتحرك بنفس اليد التي كانت تحمل بها الطفلة، وعند باب سيارتها تحدث معها أحد الشباب وشغلها بالرد عليه من جهة اليمين، بينما قام آخرٌ باختطاف هاتفها من جهة اليسار، وهنا صرخت بأعلى صوتها، فنزلت مُسرعاً إليها وأنا كنت أشاهد ما حدث لها، وتجمّع الناس حولها تلبية لصراخها، في تلك الأثناء مر بي شاب يقود موتراً (دراجة نارية)، فأخبرته بلحاق ذلك اللص الهارب وما كانت إلا عشر دقائق وتم القبض عليه بواسطة ذلك الشاب قائد الدراجة النارية، ولقد لحقته جموع الناس الذين كانوا متجمهرين حول سيارة الفتاة، ولقد حاول البعض ضربه، ولكني منعتهم من ذلك وطلبت منه فقط أن يسلمني الهاتف الذي قام بسرقته من الفتاة وسنخلي سبيله، وقال لنا لقد أخذه مني آخر سوف اتصل به لإرجاعه، هنا تدخل البعض وقاموا بإدخال اللص داخل السياؤة ووضعوه في منتصف المقعد الخلفي، وجلس آخران معه من جهة يمينه والثاني يساره وطلبا من الفتاة التحرك إلى قسم الشرطة والذي لا يبعد كثيراً من مكان الحادث.
حاولت منع الفتاة من التحرك من هذا المكان لخطورة ذلك عليها، وقد يعرضها لجريمة أكبر من التي حدثت معها، وقلت لها بالحرف لا تتحركي، لأنك تجهلين هوية من معك داخل هذه السيارة، وطلبت من الشباب النزول من سيارتها وإبقاء اللص داخلها إلى حين وصول صاحبه الذي سلمه الهاتف وما هي إلا دقائق وتم إرجاع الهاتف، وتم التعرف عليه من قبل الفتاة وأكدت أنه هاتفها وحمدنا الله على سلامة رجوعه، ولكن أحداث القصة لم تنته بعد!!
أحد الشباب والذي كان يجلس في المقعد الخلفي على يمين اللص ادعى أنه ضابط مباحث، ولا بد من تحقيق العدالة بإيداع هذا اللص في حراسة القسم، فطلبت منه إبراز هويته للتحقق من ادعائه، فخاطبني بلهجة شرسة وقال لي: من أنت لأبرز لك بطاقتي وأجبته بأنّي مواطن ومن حقي التعرف على هويتك، هنا تدخل نفرٌ من الحاضرين واتهموني بأنني على خطأ، وحتى الفتاة كانت تؤيدهم ونظرت لي نظرة توبيخ، فتنازلت من حديثي وذهبت إلى سيارتي و كنت أعاتب نفسي على تدخلي فيما لا يعنيني، الشئ الذي سبّب لي بعض الحرج حينما طالبت الرجل بإبراز هويته بغرض التأكد من صحة ادعائه بأنه ضابط مباحث من أجل سلامة الفتاة.
في تلك الأثناء، تحرّكت سيارة الفتاة متجهة إلى قسم الشرطة وهي تحمل اللص والضابط وآخر، وعلى ما يبدو أن الضابط استطاع إقناع الفتاة أن تنزل وتركب في الكرسي الآخر ويقوم هو نيابة عنها بالقيادة لأنها كانت متوترة فوافقت، فنزل الضابط مُسرعاً وجلس في كرسي السائق وأمسك بالمقود وترجّلت الفتاة بالهويني لتركب في الكرسي الآخر بعد أن تم إفراغه من كرسي الأطفال الذي حملته وتحرّكت به وهي تحمل طفلتها لتضعه في شنطة السيارة الخلفية (الضهرية)، وما أن وضعت الكرسي إلأ وتحرّكت سيارتها بسرعة جنونية مختفية عن الأنظار، مما جعل الفتاة تصرخ مرة أخرى لم أستطع في هذه المرة التعاطف معها وتلبية صرختها، لأنها لم تسمع نصيحتي مع اتهامها لي بعدم الحكمة، لأنني قمت بمنعها من الذهاب إلى قسم الشرطة بمعية من كان معها داخل سيارتها.
لقد ذُهل الجميع بتلك الأحداث المتناسقة والمتتالية التي حدثت في ثوانٍ معدودات والجميع كان شاهداً عليها ومدوناً لها كجريمة حديثة متطورة على نسق جرائم آرسين لوبين لم نعهد مثلها من قبل، وهذا نتاج طبيعي للعجز الحكومي الذي أحبط الشباب وهدم كل الدعامات التي ساقت البلاد إلى هذه الحالة.
وما زالت للقصة بقية تروي المأساة التي وصل إليها الشعب السوداني في ظل العجز الذي تُدار به الدولة والاقتتال على كراسي السُّلطة..!!