خرجت جموع هذا الشعب السوداني المغلوب على أمره، وتوحّدوا في مظهرٍ فريدٍ من نوعه عبر ثورة جبّارة دكّت حصون الإنقاذ العتية في معاقلها، ولم يكن ذلك من أجل تغيير اسم رئيسهم أو حاضنته السياسية فحسب، ولذلك كان من المُفترض على هذه الحكومة إحداث تغيير جذري لجبر الضرر الذي وقع على معظم أفراد هذا الشعب طيلة الـ30 عاماً الماضية، التي كانت حُبلى بالذل والهوان الذي مارسته الدولة البوليسية عليهم، والتي لم يسلم منها حتى مُعظم أفراد الحاضنة السياسية للإنقاذ نفسها، ولكن ما قاد الناس لذلك مُباشرةً، هو الغلاء الذي بدأ يأكل محدودي الدخل كأكل النار للهشيم!
الشعب ليس له في النظريات الاقتصادية المُعقّدة التي تُعزِّز سياسات التحرير الاقتصادي التي تُنفِّذها هذه الحكومة وفق روشتة صندوق النقد الدولي، والتي قلّبت حياة أفراده رأساً على عقبٍ، وأدخلتهم في فقر مدقع ازدادت نسبته بصورة مُخيفةٍ جرّاء ارتفاع الأسعار بسبب الفشل الواضح في إدارة الملف الاقتصادي، وكما ليس للشعب أدنى ثقة في الحكومة، ولهذا تتجاوز الحكومة شعبها ويعبث الساسة بتجاربهم النووية فيه. ظناً منها بأنّ هذه السياسات ستخفيف الضغط على وزارة المالية في دفع فرق سعر صرف النقد الأجنبي لاستقرار ميزان الاستيراد الذي يُساهم فيه جل الشعب، وذلك خصماً من قُوتهم اليومي وشقاء أعمارهم دون أن تتحمّل الدولة معهم شيئاً!
بهذه الزيادات التي فرضتها الكهرباء في أسعار خدمتها بأكثر من خمسة أضعاف، يكون قد نال بها الشعب ضربته القاضية، وأكّدت فشل الطاقم الذي يُدير الملف الاقتصادي في هذه الحكومة وحاضنتها السياسية، الذين أصابتهم الغشاوة، فصاروا لا يرون مُعاناة هذا الشعب! وكما لا يبالون بما سيؤول إليه حال أفراده، وكاشفين بذلك حجم المأساة التي وصلت إليها ضحالة الفكرة التي تُدار بها هذه الدولة .
قِمّة اللا مبالاة من الحكومة بالشعب، والتي تتجاهل يوماً بعد يومٍ جل حقوقه المَطلبية التي يُنادي بها في كل نهاية أسبوع حينما يخرج في مليونيات حاشدة من أجل توصيل صوته، وسيتم دفع فاتورة تلك الحماقات التي تقوم بها الدولة بأرواح نفرٍ عزيزٍ من أفراد هذا الشعب الذين تصطادهم فوهات بنادق الأجهزة الأمنية حينما تقوم بحماية مُتّخذي هذه القرارات، ودائماً يقع دفع فاتورة ذلك التخبُّط في هذه السياسات الرعناء التي تسير بها الدولة على الشرطة التي عجزت عن ما تقوم بفعله في مثل هذه الحالات، فإذا تعاملت مع الاحتجاجات بصرامة حاسبها الشعب، وإذا تساهلت حاسبتها الدولة .
هذه السياسات الخرقاء التي ما زالت الحكومة تسير وفق مُوجِّهاتها وبإصرارٍ غريبٍ من نوعه عليها، مما أوصلت به الشعب إلى مراتب العَوز وحواف الفقر الذي بمُوجبه ازدادت معدلات الجريمة المُسلحة داخل المُدن، وبهذا تكون الحكومة قد أجزلت العطاء لشعبها كما كوفئ المُهندس سنمار، وهو مهندس بيزنطي يُنسب له بناء قصر الخورنق الشهير. وعبارة (جزاء سنمار) عبارة مشهور وصارت مثلاً يُقال حينما تكون المكافأة عقاباً بديلاً عن الشكر، وتطلق على كل من شابهت قصته قصة هذا المهندس الذي قام ببناء قصر الخورنق المنيف وعند انتهائه من البناء، قال لصاحب القصر والذي هو الملك النعمان: (إن هناك طوبة في مكانٍ مُعيِّنٍ لو زالت لسقط القصر بأكمله، وبهذا الحديث كان يريد أن يُوصف براعته)، وكما طمأن الملك بأنّه هو الوحيد الذي يعلم ذلك السر، وكذلك فخراً بنفسه قال للملك: بأنه يستطيع بناء قصر أفضل من الخورنق إذا أراد منه ذلك، فما كان من الملك النعمان إلا وأن ألقاه من أعلى القصر، كي يقطع ما يُهدِّده وخوفاً من أن يخبر أحداً عن مكان تلك الطوبة التي يُمكن أن ينهار البنيان بسببها، أو أن يقوم ببناء قصر آخر يُضاهيه لشخصٍ آخر غيره، فالشعب هو من أتى بهذه الحكومة، وهذه الزيادات التي فَاقت حُدود مقدرة الشعب، هي كجزاء سنمار الذي جازت به الحكومة شعبها .
فإنّ هذه الزيادات في فاتورة الكهرباء عبارة عن أكبر خازوق قامت الحكومة بدقِّه على رؤوس شعبها، وأعظم خطأ ارتكبته ظَنّاً منها أنها لن تمس البسطاء، لأنّ الزيادات قد لا تشمل الـ200 كيلو وات الأولى للسكني، ولكن الواقع يكذب ذلك، لأنّ أسعار السلع سوف ترتفع معها وخُصُوصاً التي تحفظ مُبرّدةً، وكذلك فاتورة الصناعة والتي سيحاول التجار مُجاراة هذه الزيادة من أجل تغطية الفاتورة الجديدة للكهرباء! وهذا ما سيعجز الشعب عن تحمُّله وما سيسوقه إلى الانفجار لمُواجهة طوفان هذه الزيادات غير المُحتملة في كل شئٍ! وعلى الدولة الاستعداد لذلك، وعلى الشرطة ألا تُمارس أيِّ حماقات في مُواجهة الاحتجاجات المُتوقّعة جَرّاء هذه السياسات الرعناء والتي يُمكن يروح ضحيتها نفرٌ عزيزٌ من الشعب، وكذلك يُمكن أن تسوق نفراً من منتسبي الشرطة الى غياهب السجون حال وقوفهم ضد إرادة الشعب.