حديث المدينة _ “عيب الشوم”! _ عثمان ميرغني
بعد خروجي من المعتقل وفي يوم الخميس 4 أبريل 2019، أي قبل بداية الاعتصام أمام القيادة العامة بيوم واحد فقط، تشرفت بزيارة الإمام السيد الصادق المهدي بمنزلي، وتصادف وجود أصدقاء أعزاء من الشخصيات المعروفة للمجتمع السوداني، ودار نقاش حول الوضع في البلاد ومصير ثورة ديسمبر التي بدأ البعض يظن أنها فقدت بريقها بعد أكثر من أربعة أشهر من التظاهرات والدماء والسجون والتعذيب.
لا زلت أذكر جيدا، قلت للسيد الصادق المهدي، النظام سيسقط لا محالة، ولكن الخوف كله أن لا تستعد المعارضة بمشروع جاهز يبدأ تنفيذه من الدقيقة صفر بعد إذاعة البيان رقم واحد.
و اقترحت عليه و فورا قبل سقوط النظام أن تعلن المعارضة عن “برلمان” يمثل مرحلة ما بعد سقوط النظام، يصبح هو المرجعية التي تدير البلاد ومنه تخرج مؤسسات الحكم، رد علّي السيد الصادق المهدي (هذا مقترح رومانسي!).. وكان يجلس بجواره الاستاذ التجاني الكارب فقال ممازحا للسيد الصادق ( وماهو عيب الرومانسية؟) رد عليه الصادق المهدي (أقصد خيالي)!!.
لكني واصلت شرح الفكرة بتفصيل أكثر، والحيثيات التي تجعلها أسلم طريقة لبناء دولة بعد سقوط النظام، ولاحظت أن الصادق المهدي بدأ يتجاوب تدريجيا ثم قال لي ( أعتقد أنها فعلا فكرة سديدة، سأعلنها غدا في خطبة الجمعة بمسجد الامام عبد الرحمن).. وفعلا في اليوم التالي وفي خطبة الجمعة أعلن مقترحه بتكوين المجلس التشريعي “البرلمان” فورا حتى قبل سقوط النظام ليتدبر أمر تشكيل مؤسسات الحكم في حال انتصار الثورة.
وشاء الله أن يبدأ الاعتصام يوم السبت 6 أبريل ويسقط النظام الدكتاتوري سريعا في الخميس التالي 11 أبريل 2019..
ثم.. تتكشف الفجيعة..!!
كان واضحا من اللحظة الأولى أن المعارضة فقدت البوصلة، بدلا من اصلاح نفسها وتدبر مؤسساتها انشغلت بالطرف المقابل، المجلس العسكري، فطالبت بإقالة الفريق أول عوض بن عوف، وتحقق الأمر في يوم واحد، ثم طالبت بإقالة ثلاثة من اعضاء المجلس العسكري ، وتحقق ذلك، ثم طالبت باقالة رئيس القضاء، ثم النائب العام، ثم وكيل وزارة الاعلام.. وفي غمرة الانشغال بالآخر، لا أحد يطالب بإصلاح أجهزة الثورة.. فكانت طامة المفاوضات التي استنزفت الوقت والجهد والدماء والاحن والمحن حتى ولدت الوثيقة الدستورية بمؤسسات ناقصة برلمان، على أن يتكون في شهر بعد ذلك، ومر الشهر والثلاثة، وكان أسهل عمل أن يصدر بين الحين والآخر بيان الاعتذار عن تكوين البرلمان بحجج متآكلة.. و (مرت الأيام، كالخيال أحلام) ولم يولد البرلمان حتى اليوم..
وبعد توقيع اتفاق جوبا لسلام السودان، ووصول قادة الحركات إلى الخرطوم بدا كما لو أن البرلمان أخيرا سيولد.. فإذا بعبقري يخترع حكاية “مجلس شركاء الفترة الانتقالية” وتغرق البلاد في شبر ماء الخلاف والاختلاف والكر والفر.. ويعلو غبار وضجيج المعركة فيصبح صوت المطالبة بتكوين البرلمان (زي صوت طفلة وسط اللمة منسية) على رأي شاعرنا الدوش.
يبدو فعلا على رأي فقيد الوطن السيد الصادق المهدي.. البرلمان فكرة رومانسية! في بلد يعتبر الرومانسية “عيب الشوم”!