-١-
عدّة رسائل حملها مشهدُ الجماهير الغفيرة المُتزاحمة، وهي تحتشد لاستقبال قيادات الحركات المُوقِّعة على اتفاق جوبا.
مُؤسفٌ ومُحزنٌ أن تتم هذه الحُشُود والبلاد تستقبل الموجة الثانية لجائحة (كورونا)، بإمكانيات ضعيفة ووعي شعبي مُنخفضٍ بالمخاطر.
وهذا مُؤشِّرٌ يدل على أنانية النادي السِّياسي واهتمامه بمكاسبه الصغيرة على حساب صحة وسلامة المُواطنين.
القيادات والزّعامات بكمّاماتها الواقية تجلس في مَنصّتها العُليا، وتترك للجماهير أشعة الشمس والغُبَار والأنفاس المُتقاربة!
وقد ظللنا نُردِّد دائماً أنّ النادي السِّياسي السُّوداني:
نادٍ انتهازيٌّ عقيمٌ، يُعاني شُحّاً أخلاقياً وجفافاً في المشاعر الإنسانية، وجدباً فكرياً مُريعاً، مع ذرائعية تُبرِّرُ له كُلَّ ما يفعل.
لن تصغى آذان المُواطنين بعد ذلك الحشد المأذون والمُرتّب له حكومياً، لدعوات التباعُد الاجتماعي والتحذير من مخاطر (كورونا).
فالحكومة التي تدعوهم للخروج والتجمهر اليوم، لن يُستجاب لدعواتها غداً بالتزام المنازل وعدم التقارُب.
هذا فيما يخص الجوانب الصِّحيَّة والإنسانية، أما الجانب السِّياسي فأمره آخرُ .
-٢-
من الواضح بروز شارع سياسي جديد سيكون له دَورٌ مُقدّرٌ في رسم ملامح المشهد السياسي القادم.
دخول قادة الحركات في أجهزة الفترة الانتقالية، سيفرض خطاباً جديداً وسيعيد ترتيب أجندة المرحلة.
ما حدث مع السيد إبراهيم الشيخ من صيحات استهجان، لم تكن تستهدف شخصه ولا حزبه.
هذا مَوقفٌ مُناهضٌ لقُوى الحُرية والتّغيير، ظَلّت تُعبِّر عنه قيادة الحركات عبر بيانات وتصريحات وتغريدات مُختلفة!
وهو امتدادٌ لما حَدَثَ في بداية الفترة الانتقالية مع بعض قيادات قُوى الحُرية والتّغيير في مدينة الفاشر.. حين تعرّضوا لمُضايقات جماهيرية وهتافات مُضادة لم تُمكِّنهم من إنجاز برنامج الزيارة.
-٣-
ربما مصدر ذلك الغضب المُتصَاعِد، إحساسٌ مُتنامٍ من قواعد تلك الحركات بأن قُوى الحُرية والتّغيير تعبر في خطابها واهتماماتها عن المركز النيلي.
وفي المركز النيلي تعبر عن المزاج الخرطومي وهُمومه ومشاغله المُتراوحة بين الطبقة الوسطى وأُسر المال والأعمال.
وقد نبّهنا لذلك مِن قَبل، حين كتبنا في هذه المساحة عن أخطر علة تُعانيها الحكومة الانتقالية.
بين كثير العلل، لن تجد أهم من سيطرة عقلية (سنتر الخرطوم) على تصوُّراتها.
أكثر من شَاهدٍ يُوضِّح ذلك، فدائرة الإحساس ومَدَى الاهتمام وطرائق التعبير لا تتجاوز الخرطوم الافتراضية.
خرطوم “الفيسبوك وتويتر”، وخرطوم النُّخب السياسية ورجال الأعمال وأساتذة الجامعات والناشطين، والعائلات الكبيرة!
هذا يعني: إنّ دائرة الإحساس ومدار الاهتمام، لا يصلان لمناطق أمبدات والفتيحاب وعِد حسين والجزيرة إسلانج، دعك من الولايات البعيدة.
حتى الذين ينتمون للولايات من أهل السُّلطة، تجدهم في حَالة تَمَاهٍ شبه كاملة مع تلك الذهنية الخرطومية.
ذهنية تضع في قِمّة أولوياتها، قضايا الجندر والختان واتفاقية سيداو!
-٤-
قُصُور الإدراك والإحساس الحكومي على تلك الدائرة الضيِّقة، ترتّب عليه بُروز مظاهر احتجاجية واسعة في الولايات.
صراعات قبلية، واعتصامات مناطقية، وتظاهرات احتجاجية على الغلاء وانعدام الخدمات.
-٥-
وصف الفريق حميدتي لإبراهيم الشيخ بأنّه يمثل التيار المُعتدل والدفاع عنه بالدموع، مُضافاً إلى ذلك قول حميدتي إنّ الصفوف تمايزت.
مع الأخذ في الاعتبار خروج الحزب الشيوعي من قُوى الحُرية، كل ذلك يعني تشكيل تحالف جديد.
هذا التحالف الجديد يحمل كثيراً من المُتناقضات التي مِن المُحتمل، أن لا تجعل مُستقبله أفضل من التحالف القحتاوي السابق.
-٦-
للأسف لن يمضي وقتٌ طويلٌ حتى تبرز للعلن الصِّراعات والخلافات والتزاحُم على المناصب والغنائم.
ما حَدَثَ في ندوة وفد المُقدِّمة بالحاج يوسف من اعتداءٍ بالحجارة على المُتحدِّثين، قد يكون هو البداية.
أهم ملامح الفترة الجديدة أنّ الخرطوم أصبحت مركز الصراع السِّياسي السَّاخن وبؤرة صناعة الأحداث.
– أخيراً –
إما أن يصبح هذا التحوُّل على المدى المتوسط، داعماً حقيقياً لتجربة ديمقراطية تفاعلية حيوية حقيقية.. أو على المدى القريب، يصبح مُنتجاً لصراع عسكري مُتعدِّد الأطراف، مركزه هذه المَرّة الخرطوم وليس أيِّ مكانٍ آخر!!