ومما يجعلنا نثق في شبابنا حكاية الصبي الذي وفد الحجاز مع قومه إلى عمر بن عبد العزيز حين وليّ خليفة، ولما اختبره أعجب بذكائه وقال له في تواضع: عظني فقال الصبي: يا أمير المؤمنين إن أناساً غرهم حلم الله، وثناء الناس عليهم، فلا تكن ممن يغره حلم الله وثناء الناس عليه، فتزل قدمك وتكون من الذين قال الله فيهم: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون). فنظر عمر في سن الغلام فاذا له اثنتا عشرة سنة فأنشدهم عمر رضي الله تعالى عنه:
تعلم فليس المرء يولد عالماً
وليس أخو علم كمن هو جاهل
فإن كبير القوم لا علم عنده
صغير اذا التفت عليه المحافل
” درواس بن حبيب اقوى المرشحين لولاية كسلا”
إن كان قادة السودان يفكرون في ولاة جدد يعرفون حالة الولايات وبؤسها وهوانها على الناس فليقرأوا حكاية هذا الفتى صاحب العلم والنخوة خاصة وأن البادية التي تحدث عنها اشبه بالهامش السوداني الذي ضربه الاهمال وعجز الرجال.
قال الشاهد إن البادية في عهد هشام قحطت ( من قحط) فقدمت عليه العرب، فهابوا أن يكلموه، وكان فيهم درواس بي حبيب، وهو ابن ست عشرة سنة، له ذؤابة وعليه شملتان فوقعت عليه عين هشام، فقال لحاجبه: ما شاء أحد أن يدخل عليّ إلا دخل حتى الصبيان، فوثب درواس حتى وقف بين يديه مطرقاً، فقال: يا أمير المؤمنين إن للكلام نشرا وطياً، وإنه لا يعرف مافي طيه إلا بنشره فإذا أذن لي أمير المؤمنين أن أنشره نشرته، فأعجبه كلامه وقال له: انشره لله درك.
فقال: يا أمير المؤمنين إنه أصابتنا سنون ثلاث، سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة دقت العظم، وفي أيديكم فضول مال، فإن كانت لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لهم، فعلام تحبسونها عنهم، وان كانت لكم فتصدقوا بها عليم، فإن الله يجزي المتصدقين. فقال
هشام: ما ترك الغلام لنا في واحدة من الثلاث عذراً فأمر للبوادي بمائة ألف دينار، وله بمائة ألف درهم، ثم قال له: ألك حاجة؟ قال: ما لي حاجة في خاصة نفسي دون عامة المسلمين فخرج من عنده وهو من أجل القوم.
“بعض فضائل الحجاج”
من أغرب ما اطلعت عليه أن اهل التاريخ الاسلامي وثقوا للتظاهرة الفاجرة التي اغتالت الخليفة الثالث الشهيد عثمان بن عفان رضي الله عنه فقتلوا جميعهم رغم انتشارهم في الامصار.
ومن الحكايات النادرة مقتل عمير بن صابئ على يد الحجاج حين وليّ العراق قال الراوية:
حين انهى الحجاج خطبته الغاضبه وخرج لحق به شيخ يرعش فقال أيها الأمير: إني على الضعف كما ترى ولي ابن هو أقوى مني على القتال، أفتقبله بديلاً مني؟ فقال: نقبله أيها الشيخ، فلما ولى قال له قائل: أتدري من هذا أيها الأمير؟ قال: لا قال: هذا عمير بن صابئ الذي يقول:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني
تركت على عثمان تبكي حلائله
ولقد دخل هذا الشيخ على عثمان رضي الله عنه وهو مقتول فوطئ في بطنه، فكسر ضلعين من أضلاعه.
فقال الحجاج: ردوه فلما ردوه قال له الحجاج: أنت الفاعل بأمير المؤمنين عثمان ما فعلت يوم قتل الدار؟ إن في قتلك أيها الشيخ إصلاحاً للمسلمين، يا سياف أضرب عنقه، فضرب عنقه وكان من أمره بعد ذلك ما عرف وسطر
“أم الجعلي”
من أفضل النساء من تجتمع فيهن فضائل الحسب والنسب والعلم والدين والفطنة. ومن أعجب القصص زواج الخليفة المأمون من إمرأة من عامة الناس اختبرها فأصابت فتزوجها بعد ( انترفيو ) على الهواء الطلق تقول الحكاية:
إن الخليفة المأمون كان في رحلة صيد فأشرف على نهر ماء الفرات، فإذا هو بجارية عربية بيدها قربة قد ملأتها ماء وحملتها على كتفها وصعدت من حافة النهر فانحل وكاؤها ( رباط القربة) فصاحت برفيع صوتها: يا أبت أدرك فاها، قد غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها، فعجب المأمون من فصاحتها ورمت الجارية القربة من يدها.
فقال لها المأمون يا جارية من أي العرب أنت؟ قالت: أنا من بني كلاب. قال: وما الذي حملك أن تكوني من الكلاب؟ فقالت: والله لست من الكلاب، وإنما أنا من قوم كرام، غير لئام يقرون الضيف، ويضربون بالسيف، ثم قالت: يا فتى من أي الناس أنت؟ فقال: أوعندك علم بالأنساب؟ قالت: نعم قال لها: أنا من مضر الحمراء، قالت: من أي مضر؟ قال: من أكرمها نسباً، وأعظمها حسباً، وخيرها أماً وأباً، ممن تهابه مضر كلها. قالت: أظنك من كنانة؟ قال: أنا من كنانة. قالت فمن أي كنانة؟ قال: من أكرمها مولداً وأشرفها محتداً، وأطولها في المكرمات يداً ممن تهابه كنانة وتخافه. فقالت: إذن انت من قريش؟ قال: أنا من قريش. قالت: من أي قريش؟ قال: من أجملها ذكراً وأعظمها فخرا، ممن تهابه قريش كلها وتخشاه، قالت: أنت والله من بني هاشم: قال: أنا من بني هاشم. قالت: من أي هاشم؟ قال: من أعلاها منزلة، وأشرفها قبيلة، فمن تهابه هاشم وتخافه قال: فعند ذلك قبلت الأرض وقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين. قال فعجب المأمون وطرب طرباً عظيماً وقال: والله لأتزوجن بهذه الجارية لأنها من أكبر الغنائم، ووقف حتى تلاقته العساكر فنزل هناك وأنفذ خلف أبيها وخطبها منه فزوجه بها، وأخذها وعاد مسروراً. وهي والدة ولده العباس
“الشفقة تطير”
دخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه المسجد وقال لرجل كان واقفا على باب المسجد: أمسك علي بغلتي. فأخذ الرجل لجامها ومضى، وترك البغلة، فخرج علي وفي يده درهمان ليكافئ بهما الرجل على امساكه بغلته فوجد البغلة واقفة بغير لجامها ومضى، فركبها ومضى ودفع لغلامه درهمين يشتري بهما لجاماً، فوجد الغلام اللجام في السوق قد باعه السارق بدرهمين، فقال علي رضي الله عنه: إن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر، ولا يزداد على ما قدّر له. فما رأيكم في التعليق السوداني الحصيف (الشفقة تطير)
“في أدب الاجتماعات”
إن بقي في عمرِ حكومة حمدوك بقية فهذه نصيحة تصلح لاجتماعات مجلس الوزراء يقول بها اهل الحضارات من الفرس واليونان فقد كان لا يجمعون وزرائهم في جلسة واحدة والاسباب مفصلة في الرواية التالية: ( كان اليونان والفرس لا يجمعون وزراءهم على أمر يستشيرونهم فيه، وإنما يستشيرون الواحد منهم من غير أن يعلم الآخر به لمعان شتى، منها لئلا يقع بين المستشارين منافسة، فتذهب إصابة الرأي، لأن من طباع المشتركين في الأمر التنافس والطعن من بعضهم في بعض، وربما سبق أحدهم بالرأي الصواب فحسدوه وعارضوه.
وفي اجتماعاتهم أيضا للمشورة تعريض السر للاذاعة، فاذا كان كذلك وأذيع السر لم يقدر الملك على مقابلة من أذاعه للأبهام، فإن عاقب الكل عاقبهم بذنب واحد، وإن عفا عنهم ألحق الجاني بمن لا ذنب له.
“التركة المثقلة”
ومن أبلغ الأقوال ما يقال ساعة الوداع وفي سكرات الموت، والسودانيون يسمون هذه اللحظة (بفجة الموت) وفيها يرد الناصع من القول والوصية قبل المغادرة.
وحكي عن هشام بن عبد الملك لما حضرته الوفاة نظر إلى أهله يبكون حوله فقال: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم له بالبكاء، وترك لكم جميع ما جمع، وتركتم عليه ما حمل، ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له
“تدبروا هذه الصورة البشعة”
رأيت الناس في المواقع والميديا المعاصرة يستسهلون الخوض في اعراض الناس كأنهم خلقوا بلا أمهات ولا أخوات ولا بنات ولا سمعة ولا حياض يخاف عليها، فتذكرت حديث المصطفى الذي ترتجف من ذكره حتى قلوب العصاة، فهو دعوة للتدبر والخوف والتوبة النصوح.
روى أبو داوود في سننه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( لما عرج بي إلى السماء مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم)
” النميمة تفضح الأصل الخبيث”
من أخطر ما قرأته أن حامل النميمة والساعي بها لاشاعة الكراهية بين الناس غالبا ما يكون مشكوك في نسبه.
وهنالك أدلة منها هذه الحكاية فقد سعى رجل ( بالوشاية) إلى بلال بن أبي بردة برجل صالح كان أمير البصرة فقال له: انصرف حتى اكشف عنك، فكشف عنه فإذا هو ابن بغي، يعني ولد زنا.
“وخزة”
سألني يوما أحد الصحفيين عن اسحق احمد فضل الله فقلت له: ما رأيت أحدا يكره اسحق إلا وجدت غبشاً في عقيدته أو شكاً في وطنيته.
إن اسحق السجين أخطر على اعدائه من اسحق الحر الطليق لو كانوا يعلمون، فماذا يفعل صاحب القيد الماثل وصاحب الاستبداد الآفل من كبرياء ورفعة هذا القلم الملتزم العنيد؟