العين الثالثة _ (كما تدينُ تُدان)! _ ضياء الدين بلال
-١-
قبل أشهرٍ، صدر توجيهٌ من رئيس الوزراء دكتور عبد الله حمدوك: بألا يتم الاستغناء عن أي موظف أو مسؤول، قبل إيجاد بديل له.
ربما كان سبب إصدار ذلك التوجيه مراعاة ألا يحدث فراغٌ في المناصب والوظائف المهمة، فيتأثّر دولاب العمل. وكان الأولى أن يحث ويحرص رئيس الوزراء على مبدأ تطبيق العدالة والإنصاف قبل مصلحة العمل.
مع ذلك، لم يتم الالتزام بذلك التوجيه حتى في حدِّه الأدنى. لأن الرغبة في الانتقام والتشفي كانت أكبر من الحفاظ على المصالح العامة والاستجابة لرجاء رئيس الوزراء!
-٢-
لو أن هنالك جهات تحقيقية بحثت ونقّبت بصدق، لاكتشفت أن كثيراً من قرارات الفصل والإحالة لم تكن لأسباب سياسية محضة.
فالمكائد الوظيفية والرغبة في الصعود والترقي في المناصب، تجعل بعض الموظفين يكيدون لزملاء لهم.
وأوضح دليل على ذلك، اعترف الأستاذ وجدي صالح عضو لجنة إزالة التمكين بوجود أخطاء وتجاوزات في كشوفات فصل وتسريح بعض الموظفين.
فقد قال وجدى: (إنّ عدداً من الوزارات شكّلت لجاناً لإزالة التمكين من تلقاء نفسها، وأعدّت قوائم بالمفصولين، لكنها تراجعت وأقرّت بارتكابها أخطاءً في هذه القوائم، كما أننا في اللجنة اكتشفنا عدداً من الأخطاء سنقوم بمراجعتها وتصويبها)!
-٣-
كثيراً ما تجدُ في بعض المؤسسات الأعلى صوتاً من دُعاة الإقصاء والتفكيك هم من كانوا في الأمس الأقربَ للسَّابقين والأكثر ممالقة لهم.
لذا تجدهم يعْمُدون للمبالغة والتطرُّف في إدانةِ ما مضى والمزايدةِ على من كانوا معهم في السابق حينَ مغْنَم.
وعلى قول الشاعر الطيب برير:
قد بَانَ عُــريُكَ تُـقيةً
هَا فَاسْـتَتَرْ
سيّانِ
بعضُ العُرْيِ
تَفضحُهُ الثّـيابْ.
-٤-
الرغبة العارمة في التخلُّص من آثار الثلاثين عاماً، سنوات حكم الإنقاذ، تتم في غالب المؤسسات بصورة فوضوية تصفوية متوحشة.
صحيحٌ هنالك ضرورة لتفكيك كل ما قام على باطل في الحقبة السابقة، ورد الحقوق إلى أهلها ومعاقبة الفاسدين والمتجاوزين، هذا مطلب ثوري وواجب تاريخي. كل ذلك يمكن أن يتم لكن بطرق سليمة ووسائل نظيفة تُراعي قيم ومعايير العدالة والإنصاف. هنالك فرق بين تفكيك البنية التنظيمية للنظام السابق، وتفكيك أجهزة الدولة ووضع البعض في دائرة الاشتباه على الظنون والوشايات.
-٥-
اليوم هنالك كثيرٌ من الاتهامات الرائجة عن وجود تجاوزات خطيرة في ملف محاربة الفساد.
اتهامات متعلقة بالابتزاز والمحسوبية وتلقي الرشاوى والتعامل مع المؤسسات والممتلكات المصادرة كغنائم حرب. واتهامات أخرى بشروع جهات حزبية في تسكين عضويتها وظيفياً داخل مؤسسات الدولة في ما يُعرف بالتمكين المُضاد!
تظل هذه اتهامات تستحق البحث والتحقيق الجاد للتأكد من مدى مصداقيتها، وتمييز الحقائق من الافتراءات.
-٦-
المهم، من خلال هذه التداعيات ليس من المُستبعد أن يأتي يوم قريب، في سياق تطورات دستورية وسياسية، تعين فيه لجنة أخرى لتفكيك البنية الجديدة التي تكوّنت في الفترة الانتقالية!
حيث تكون المبرّرات أن مجموعة من الأحزاب اليسارية سيطرت على جهاز الدولة وسكنت في مساكن الذين ظلموا أنفسهم!
جلسوا على مقاعدهم، وورثوا امتيازاتهم، وامتطوا سياراتهم، حتى وسمتهم النعمة!
وتصعد مرة أخرى في فضاء الوطن المنحوس، شعارات التطهير والصالح العام والتفكيك!
ولن نُصاب بالدهشة غداً إذا تم فتح بلاغات ضد من يرفعون شعارات مُحاربة الفساد اليوم!
-٧-
ما يُفعل الآن في الفترة الانتقالية من تصفيات واتهامات بالفساد، فعلته الإنقاذ حينما جاءت للحكم في ١٩٨٩م. وحدث قبل ذلك بعد ثورة أكتوبر وانتفاضة أبريل وقد يحدث غداً مع أي تغيير قادم.
التاريخ في السودان يعيد نفسه بغباء غريب، هذه المعارك السياسية الصغيرة، والتصفيات المُتبادَلة (الحفر والردم)، أضعفت أجهزة الوزارات، وأفسدت بيئة العمل، بروائح التآمر والمكائد!
وأورثت أجهزة الدولة السودانية عللاً وأمراضاً أقعدتها عن النهوض.. مع كل تغيير يظل الوضع على ما كان عليه، بل يزداد سوءاً.
انقطاع التجارب وعدم تتابعها، وإهمال كُلِّ قادمٍ النظرَ في دفاتر وأوراق سابقيه، جعلنا نُعيد إنتاج تجاربنا الفاشلة، ونُكرِّر أخطاءنا الفادحة، نقطة وشولة. وكأننا في مسرحية دائرية عبثية، تتكرَّر فيها الفصول بذات الأحداث والوقائع، مع اختلاف أدوار المُمثلين وتغيُّر الأسماء.
– أخيراً –
إنهاء تمكين الإنقاذ لا يتم بترسيخ تمكين حزبي مُضاد. ومعاقبة المُشتبهين يجب ألا تتم بطرق ظالمة وجائرة، فالأيام دُولٌ، ما تبخل به لأعدائك اليوم من عدل وإنصاف قد تحتاجه غداً، ولا تجده!