قلت أكثر من مرة أن المكون العسكري لن يسمح ابدا بالوصول الى اتفاق سلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان قطاع الشمال برئاسة عبد العزيز الحلو، وسيظل يضع المعوقات أمام المفاوضات من خلال رئاسته للوفد الحكومي التي تتمثل في اثنين من أعضائه هما (حميدتي) و (الكباشي)، كي يظل مسيطرا بشكل كامل على الحكم من خلال مؤسسات السلطة الانتقالية واللجان المنبثقة، يساعده على ذلك الضعف الحكومي والصراع المستفحل داخل قوى الحرية والتغيير من جانب وبينها وبين الحكومة من جانب آخر واستسلامها لسلطة العسكر التي ستصل ذروتها بانضمام الجبهة الثورية المتحالفة معهم الى التشكيل الحكومي وحصولها على أغلبية داخل المجلس التشريعي المرتقب، بالإضافة الى عدم إجراء الاصلاحات الهيكلية المطلوبة في القوات النظامية واستمرار الوضع الشاذ لقوات الدعم السريع والازدياد الواضح في اعدادها وتسليحها من يوم لآخر!
كل ذلك يعنى بشكل واضح عسكرة الدولة، وانتهاء أي أمل، على الاقل خلال السنوات الاربع القادمة، في تحقيق شعار مدنية وديمقراطية الدولة الذي رفعته ثورة ديسمبر المجيدة، إن لم يتبدد الى الابد، إلا إذا حافظت قوى الثورة الحقيقية المتمثلة في لجان المقاومة والثوار على الروح الثورية الكبيرة التي تتميز بها والضغط بقوة كجبهة واحدة لتحقيق اهداف الثورة التي سرقها العسكر والقوى المدنية الانتهازية التي تحالفت معهم!
لقد ظل العسكر يقدمون كل يوم الدليل تلو الدليل على تعمدهم وضع العراقيل أمام المفاوضات، بالرفض الزائف لعلمانية الدولة متحججين بأن السلطة الانتقالية أو الحكومة الانتقالية غير مفوضة لبحث الموضوع ولا بد من تأجيل البت فيه الى المؤتمر الدستوري، ولا أدري كيف يلتئم المؤتمر الدستوري الذي يتحججون به بدون مشاركة أطراف أساسية فيه مثل الحركات المسلحة التي لم تصل الى اتفاق مع الحكومة، كما ان حجة عدم تفويض الحكومة دحضتها عملية التطبيع مع اسرائيل !
فضلا عن ذلك، فإن الموضوع حسم سلفا بواسطة الوثيقة الدستورية التي نصت على ان جمهورية السودان دولة ديمقراطية تقوم فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة دون تمييز بسبب العرق أو الدين أو الثقافة أو الجنس أو اللون ..إلخ (المادة 3 ، طبيعة الدولة)، فما هي علمانية أو مدنية الدولة إن لم يكن ما نصت عليه الوثيقة الدستورية، إلا البعض يتعمد التشويش على عقول الناس بأن العلمانية هي معاداة الدين، مع انها على العكس من ذلك تماما، كما شرحتُ من قبل، وأرجو ألا يقفز أحد من غياهب الظلمة ليتحجج بما حدث في فرنسا مؤخرا كدليل على ان العلمانية تعني معاداة الدين، فما حدث فيها ليس سوى محاولة رخيصة من الرئيس الفرنسي لكسب تأييد سياسي يحتاج إليه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو نفس الشيء الذي فعله الرئيس التركي بالهجوم على الرئيس الفرنسي واستغلال الاسلام لكسب تأييد سياسي يفتقده في بلاده بسبب الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعيشها، بينما يعرف الكل أن تركيا دولة علمانية، ولقد أشاد بها (اردوغان) في أكثر من مناسبة!
كما أن العلمانية ليست نسخة واحدة كما يعتقد البعض، بل عشرات النسخ، وليس بالضرورة أن نأخذ بنسخة معينة، مثل النسخة الفرنسية التي يراها البعض معادية للأديان، ولا بد هنا من الاشارة إلى أنه كانت لدينا نسختنا الخاصة وتجربتنا الخاصة قبل عام 1983 التي كانت تحظى برضاء الجميع قبل أن تمتد إليها يد التشويه السياسي بواسطة الرئيس السابق (جعفر نميري)، وهي نفس النسخة التي عكستها الوثيقة الدستورية في المادة (3 )، والتي لا أعتقد أن أي مؤتمر دستوري يمكن أن يجد نسخة أفضل منها!
آخر محاولات العسكر لإعاقة المفاوضات مع الحركة الشعبية ووضع العراقيل امام اتفاق سلام يسمح بمشاركتها في السلطة الانتقالية، هو ما فعله الفريق (الكباشي) في الورشة غير الرسمية التي انعقدت مؤخرا بمشاركة وفد حكومي والحركة الشعبية ومجموعة من الخبراء والوسطاء للوصول الى تفاهم حول تعريف العلمانية، وعندما توصل الجميع الى تعريف (هو نفسه الموجود في الوثيقة الدستورية)، قام الكباشي برفضه بعد موافقته عليه بادئ الامر، ولا شك أن الرفض حدث بتعليمات من الخرطوم، خوفا من حدوث تفاهم مع الحركة الشعبية والتوصل معها الى اتفاق سلام يؤدي لمشاركتها في السلطة وتقوية موقف المدنيين وتقليص سلطة العسكر، وهو ما لن يسمح به العسكر أبدا، ولكن يبقى الأمل الوحيد في شباب هذا البلد ولجان المقاومة بشرط ان تتوحد صفوفهم ويستعدوا جيدا لأيام طويلة من النضال وإرغام العسكر وحلفائهم على الامتثال لإرادة الشعب!
صحفية الجريدة