-١-
سأحكي لكم ما استمعت إليه في مُناقشة جانبية وسط مجموعة من الأطباء والصيادلة في إحدى المستشفيات الخاصة.
أعذروني ما سأنقله إليكم ربما يُصيب كثيرين منكم بالهَمِّ والإحباط والقلق.
أعلم أنّ ما بكم من هُموم وأوجاع، يكفيكم ويفيض، ولكن ربما ما سنذكره هُنا، يُحرِّك ساكن أهل الشأن ويستفز إنسانيتهم الخاملة.
كان موضوع النقاش عن انعدام المحاليل الوريدية بالمُستشفيات.
المحاليل الوريدية هي خط الدفاع الأول، والأهم لغالب المرضى في أقسام الطواريء.
كثير من الأدوية المُنقذة للحياة لا يتم تناولها إلا عبر تلك المحاليل.
-٢-
إذا مرض لك عزيز- لا قدّر الله – في هذه الأيام لن يجد محاليل وريدية بالمُستشفيات .
وستضطر لرحلة بحث مُرهقة ومُتعبة، قد تعود بعدها وأنت في حاجة لتلك المحاليل قبل مريضك!
علمت من تلك المجموعة أنّ المحاليل الوريدية قد دخلت منذ فترة مخابئ السوق السوداء.
المحاليل التي كانت تُقدّم في المُستشفيات مجّاناً أو بأبخس الأثمان، تُباع الآن في السوق السوداء بأسعار باهظة!
المحلول الواحد الذي كان يُباع بثمانية عشر جنيهاً لا غير، يُباع اليوم في السوق السوداء بألف جنيه وأكثر !
-٣-
هذا أمرٌ قد يُعد عادياً غير مُثيرٍ للتعجُّب والاستغراب، للزيادات اليومية المهولة في كل الأسعار، مع انخفاض الجنيه وعلو الدولار!
ما أصابني بالغم والهَم وكأبة النفس في ذلك المجلس، علمي أن هذه المحاليل الضرورية تُباع لدى (ستات الشاي) أمام المُستشفيات!
عندما تحتاج لمحاليل وريدية لمريضك طريح المُستشفى، عليك بالذهاب لأقرب بائعة شاي!
صاحبة الشاي والدواء، ستجري مُكالمة هاتفية هامسة!
لن يمضي وقتٌ طويلٌ حتى يأتي صَاحب الرّكشة بحاجتك من المحاليل!
علمت في ذلك المجلس أنّ عدداً من أهل الاختصاص من الأطباء والصيادلة هُم أصحاب تلك التجارة المُتوحِّشة!
مخازن بأحياء قريبة من الإمدادات الطبية تَمتلئ بتلك المحاليل وأدوية أخرى مُنقذة للحياة.
أدوية ومحاليل تُوضع في مخازن مُؤجِّرة في ظروفٍ غير مُلائمة، تُباع لمرضى من أهل الحاجة، لا خيار أمامهم سِوى شَرائها بأيِّ ثمنٍ ومن أيِّ شخصٍ!
-٤-
قال لي أحد الجالسين: (يُطالبون أهل الحقل الطبي بأن يرحموا المرضى، فمن يرحمنا نحن؟ الأسواق والمدارس لا ترحمنا، من لا يرحم لا يُرحم)!
-٥-
لاحظت من خلال مُشاهدتي الشخصية، أغلب الروشتات المُقدَّمة في الصيدليات، تُرَدُّ إلى أصحابها بصورة آلية حتى دُون اعتذارٍ!
كثيرٌ من الأدوية الضرورية والمُلحَّة، لا تتوفّر لطالبيها من المرضى والمُرافقين ولو بأغلى الأثمان، نُدرة غير مسبوقة، ومُعاناة نفسية ومعنوية لا تنتهي.
الكثيرون يضّطرُون لطلب الدواء من خارج السودان عبر أقاربهم!
مسؤول رفيع بالإمدادات كان يتحدث لبرنامج (كالآتي) بقناة النيل الأزرق، قال إنّ المُتوفِّر من الدواء لا يتجاوز 5% من حاجة المواطنين!
وماذا عن الـ95%؟!!!
-٦-
بإمكان الشخص أن يُكيِّف وضعَه في المأكل والمشرب والتنقُّل، حسب ظرفه المالي، يُقلِّل أو يترك أو يتناسى.
ذلك غيرُ متاحٍ في التعامُل مع العلاج. هل بإمكان مريض أن يُخفِّض جُرعة الدواء، أو يترك علاجاً مُحَدّداً بالاسم والكمية، نسبةً لارتفاع الثمن؟!!
تقليل الجرعات يُقلِّل من فاعلية العلاج أو يُضعفها، وربما تترتَّبُ عليه آثارٌ جانبيةٌ مُضرَّة بصحة المريض.
ترْكُ الدواء في أغلب الأحيان، يكون هو الطريق الأقرب للموت والرحيل!
-٧-
نشرت الصحف قبل أيام خبراً عن عزم الحكومة تحرير أسعار الدواء وترك مواطنيها تحت رحمة وحوش السوق!
حتى إذا تفهَّم لها عامَّةُ الناس الأسبابَ التي دفعتْها لتحرير المواد البترولية أو القمح والكهرباء، فمن الصُّعوبة والعُسر تقبُّل قرار تحرير سعر الدواء!
ربما، السودان الدولة الوحيدة التي يعمل فيها الشعب من أجل رفاهية حاكميه!
مناصبهم ومنازلهم وامتيازاتهم وسيّاراتهم ووقودهم وعلاجهم من عرق ودماء الشعب!
يأخذون كل ذلك ولا يُقدِّمون حتى القليل!
– أخيراً –
حكومة ترفع يدها عن قُوت مُواطنيها، وعن وقودهم، وعن دوائهم، يجب أن ترفع (جسدها ) عَن مقاعد الحكم!!