-١-
كثيرون سترتفع لديهم حواجب الدهشة إلى ما فوق مستوى التعجب، ذلك على وصف صديقنا الشاعر البريع (الطيب برير).
ما الذي يجعل الخرطومَ، فجأةً دون سابق توقعات، مركزَ جذبٍ لكل هؤلاء الزوَّار، من أصحاب الأهمية العالية، والمقام الرفيع؟!
وزيرُ الخارجية الأمريكي، من تل أبيب إلى مقرن النيلين، آبي أحمد بابتسامته الآسرة، يأتي تحت أضواءٍ خافتة!
رئيسُ الوزراء المصري ووفدُه الرفيع، غادر الخرطوم قبل أيام، ولم تجفْ الأحبار بعد، ولم ترفع الأقلام.
مبعوثٌ قطري، لأول مرة بعد التغيير، وحادثةُ إرجاع الطائرة في الأجواء، يلتقي بالفريق حميدتي والدكتور حمدوك، وما دار وما قيل طيَّ الكتمان!
وفدٌ إماراتيٌّ رفيعٌ يزور جوبا، لدعم عملية السلام السودانية، ولأخذ بصماتٍ الوفد القطري!
زيارةٌ معلنةٌ لوزير الخارجية السعودي إلى الخرطوم، وهو أرفعُ مسؤولٍ سعودي يزورنا منذ سنوات، رغم عاصفةِ الحزم ووحدةِ الخنادق.
-٢-
قد يتساءل سائلٌ: ما الرابطُ بين كل هؤلاء؟ وهل تُوجد كلمةُ سر واحدة لفك شفرة ما يحدث؟!
المُعطى المُهم في المشهد، وما يُعين على فهم الحالة: ارتفاعُ أهمية السودان في معادلات المنطقة والإقليم.
زيارةُ وزير الخارجية الأمريكي بومبيو، هدفُها الأبْرزُ انتخابيٌّ، ذو علاقةٍ بالمعادلات الأمريكية الداخلية!
الرئيس ترمب في وضع انتخابيٍّ حرج، بعدما ذهب فيروس كورونا بكل ما أنجزَه في مجال الاقتصاد، في دورته الأولى.
يريد ترمب، بمعاونةِ وزير خارجيته بومبيو، إحداثَ اختراقٍ تاريخي، في ملف التطبيع العربي مع إسرائيل.
بتحقيق ذلك سيكسبُ ترمب رضاء اللوبي اليهودي الأمريكي ويضمن كامل الدعم له في الانتخابات القادمة.
زيارةُ بومبيو لا علاقة قوية لها بالمشاغل السودانية: الرفع من قائمة الإرهاب والدعم الاقتصادي لإنقاذ مشروع الانتقال!
-٣-
لم يتحصلْ بومبيو على ما يُريد، خرطومُ اللاءات الثلاثة غير مستعدة سياسياً، لتقديم ذلك التنازل التاريخي الآن!
الحاضنةُ السياسية لحكومة حمدوك ذات التوجهات اليسارية، يغلُب عليها مزاجُ ستينيات القرن الماضي المناهض لإسرائيل كوجود!
والبراغماتيون في قوى الحرية يريدون مقابلاً مُجزياً، لتلك الخطوة ذات الكلفة التاريخية العالية.
أمريكا ترمب ذات نزوعٍ تجاري متوحش، تريد أن تأخذَ الكثيرِ ولا تُعطي إلا القليل، إذا لم تتمكّن من الأخذ مجّاناً!
المكونُ العسكري السيادي أقربُ للتطبيع، فهو متجانسٌ وأكثر تحرراً من الأحمال التاريخية والأيديولوجية.
والأهمُّ من ذلك قد يريد من كرت التطبيع إعادة تقديم نفسه للمجتمع الدولي بصورة توفر له مناصرين خارجيين.
لن يحدث التطبيعُ مع إسرائيل إلا في ظل توافقٍ عريض، داخل قوى الحرية والتغيير، وتنسيق تام بين المدنيين والعسكريين.
-٤-
زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، ومن قبله رئيس الوزراء المصري، جاءت في سياق تسابق أديس والقاهرة لكسب جانب الخرطوم في مفاوضات سد النهضة!
أهم تطورٍ في موقف الخرطوم حيال ملف سد النهضة، أنها لم تعد عنصراً محايداً أو مناوراً، قابلاً للاستمالة.
الخرطوم الآن طرفٌ ثالثٌ أصيل، ينظر أولاً، لتحقيق مصالحه وتجنُّب المضار، ومن ثم يعمل ثانياً، لتقريب وجهات النظر بين الطرفين.
فهو قد يتقارب مع القاهرة في نقاط المخاوف، ويقترب من أديس فيما يترتب على السد من مصالح.
-٥-
الآن بعد مرور عامٍ من التغيير، تعودُ قطر لتفعيل وجودها داخل المجال الحيوي السوداني.
من الواضح أن الدوحة التقطت إشارات ترحيبية من الخرطوم.
أو ربما لمست شواهد على فتور علاقة الخرطوم بالمحور السعودي الإماراتي، فأرادت إعادة ترتيب تموضعها في الساحة السودانية!
تحرك الدوحة المفاجئ، أيقظ اهتمام أبوظبي والرياض بالخرطوم، فجاءت الزيارات المُضادة٠
-٦-
بتجميعِ كل تلك الصور، يتّضحُ أن السودان الآن في وضعٍ يتيحُ له تحقيق كثير من المكاسب.
بشرطٍ واحد، إذا أجادَ استخدامَ الورق الذي بين يديه، وعرف كيفية تحويلِ هذا الاهتمام إلى مغانمَ اقتصادية كبرى.. مغانمُ تعود إلى الوطن.. مشاريعُ استراتيجية تنهض به من عثراته الاقتصادية.
مشاريع تستثمر في خيراته الوافرة وتعبر به حقب العوز والتسول والتبرج بالجراح بغرض كسب التعاطف.
بكل تأكيد لن يحدث ذلك إلا بتعاونٍ مركزيٍّ، داخل القوى الحاكمة الآن، مدنيةً وعسكرية.
وتوافق وطني عريض، يُغلقُ أبوابَ الفتن والشرور، ويفتحُ نوافذ التسامح والعدالة وحكم القانون.
لن نعبرَ ولن ننتصرَ، إذا أهملنا ما في أيدينا من فرص، وغضضنا البصر عن المستقبل، وظللنا مشغولين بمعارك الماضي، وتصفية الحسابات مع أشباح التاريخ!
-أخيراً-
الفرصُ بأيدينا، والكرةُ أمام المرمى، فقط علينا إحسانُ التهديف، ودقةُ التصويب، ووضع تدابير الحماية من الهجمات المرتدة!
نشر في صحيفة (السوداني)