-١-
قبل أشهرٍ، جمعتني جلسة اجتماعية بالأستاذ الحاج وراق، بشقة أحد الأصدقاء.
منذ البدايات، كنا مجموعة من شباب الصحفيين، نجد مُتعة فيَّاضة بالأنس والود، في الحديث مع وراق.
وراق عقلية تحليلية زاخرة بمعارف متعددة ومقدرة استثنائية على الربط بين المعلومات.
في نسق موضوعي متماسك ينتهي لخلاصات منطقية واستنتاجات ناجعة.
مزايا وراق ليست متعلقة فقط بالرؤى والأفكار وبراعة التعبير عنها بأسلوب جاذبٍ وأخاذٍ.
أكثر ميزة تقتضي أفضلية وراق على كثير من السياسيين، تمتُّعه باستقامة أخلاقية نادرة، لا تعرف المزايدة والتطفيف.
لوراق سعة راحبة في تقبل الآخر والحوار معه، بحثاً عن قاعدة مشتركات.
كثيراً ما تجد وراق يُحاور الإسلاميين بكل أطيافهم، الإصلاحيين والتكفيريين، والشيعة والمتصوفة والملحدين ومن هم في اليسار العريض.
تتّفق معه بمحبة وتختلف باحترام، ذلك ما لا تجده في مناقشة كثير من السياسيين أصحاب الأوعية الضيقة والأفق المحدود والنَّفَس القصير.
-٢-
في تلك الجلسة المذكورة بشقة صديق مُشترك، استمعت لأول مرة لوراق وهو يتحدّث عن شرق السودان.
تكرر الحديث في مقطع الفيديو المُتداول على نطاق واسع هذه الأيام.
يقول وراق: بالإمكان تفهم مطالب جبال النوبة ودارفور – لحدٍّ ما – بحق تقرير المصير للفوارق الدينية والإثنية والثقافية.
في المقابل، يتخذ وراق موقفاً متشدداً تجاه ترديد ذلك الموقف المطالب بذات الخيار لشرق السودان.
ولا يكتفي وراق بالرفض، ولكن على غير عادته، يهدد بمقاتلة من يعمل لمنح شرق السودان حق تقرير المصير!
-٣-
قبل مناقشة الفكرة واعتماد التمييز بين جهات السودان المتعددة بالدين والدم والثقافة.
من المهم الإجابة على هذا السؤال: باسم مَن يتحدّث وراق؟!
وراق كرر في حديثه الإشارة لمن أسماهم بالديمقراطيين الوطنيين، وقال إنهم سيتصدون لمقاتلة الساعين لفصل شرق السودان.
ومَن هم الديمقراطيون الوطنيون..؟ هل هم مجموعة أحزاب يسارية أم تيارات فكرية وثقافية بعينها؟!
وهل أبناء تلك المناطق في الغرب والشرق والجنوب الكردفاني، خارج ذلك التصنيف ام جزء منه؟!
-٤-
للمفارقة ذات المنطق الورَّاقي، استخدمه الأستاذ الطيب مصطفى، وهو يعلن بعد اتفاقية نيفاشا، تكوين كيان مطالب بانفصال الجنوب!
الطيب مصطفى كان يعبر بصورة ما عن مركزية الشمال النيلي.
وراق اليوم ينطق باسم مركزية جديدة، وهي مركزية الديمقراطيين الوطنيين غير المعروفة!
ما يجمع بين الموقفين مع تشابه المنطق واختلاف المنطلقات:
شعور مستبطن بالاستعلاء، عبر مركزية تحتكر حق المنح والأخذ، وتحديد المعايير.
-٥-
نتفق مع وراق في عموم الفكرة:
وجود جهات ناشطة، لإحداث فوضى بشرق السودان قد تصل للانفصال.
ونتفق معه أن انفصال الشرق (رئة الوطن)، يعني عملياً موت السودان كدولة إكلينيكياً.
لكن نختلف مع وراق في كون القوة العسكرية، إذا كانت يسارية أو يمينية أو الاثنين معاً، بإمكانها فرض الوحدة على أي جزء في السودان، دعك من الشرق بتضاريسه الجغرافية والقبلية المُعقّدة.
لو كانت الوحدة القهرية ممكنة، لنجح ذلك الخيار في جنوب السودان، بعد حرب امتدت لأكثر من نصف قرن.
الطبيعة الجغرافية للشرق تجعل خيار الحرب مثل خيار الانفصال، إذ يستحيل استمرار الحركة الاقتصادية في الحالتين.
بل الحرب ستعيق أو تمنع الحركة أكثر من الانفصال.
-٦-
سأمضي في الاتجاه المعاكس لوراق، علينا منح جميع أجزاء السودان حق تقرير المصير.
إما بالوجود تحت سقف الوطن بالرضاء والاختيار، أو مغادرته لخيار آخر دون حرب ودماء.
ذلك للآتي:
الدولة السودانية – بغض النظر عن مَن يُسيطر على مركز حكمها – لم تعد قادرة على فرض إرادتهابالقوة على أي جزء من السودان.
حالة الوطن الصحية لم تعد تحتمل جراحات جديدة، ولا الضمير العالمي سيقبل سيل مزيد من الدماء في السودان.
-اخيرا-
الأهم من كل ذلك منح ذلك الخيار سيغلق باب الابتزاز بذلك الكرت، وسينهي فاعليته في الحصول على الغنائم والمناصب، مثل ما حدث في إثيوبيا.