تعتبر انتفاضة اكتوبر عام 1964 والتي أنهت نظام الفريق عبود من الأحداث السياسية الكبرى التي وحدت اليساريين والاسلاميين، ولكن انتفاضة أكتوبر لم تكن ثورة حيث إزاحة القيادات العسكرية والسياسية من هرم السلطة ولكنها لم تحدث تغييرا بنيويا وفق رؤية اليسار الشيوعي يلامس الأبنية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التحتية ، وكان الأجدى استمرار حالة التقارب بين الإسلاميين واليساريين خلال فترة أكتوبر الانتقالية ومرحلة الديمقراطية الثانية والتي فازت بها القوى السياسية التقليدية، وذلك لتعزيز قضايا البناء الوطني الديمقراطي ، ولكن اشتدت حالة الاستقطاب الايديولوجي بين التيارين وكذلك بدلا من إدارة الخلافات الفكرية والسياسية داخل المؤسسات الديمقراطية والاجتماعية الهشة لتمتينها وترسيخها، تسللا لبناء الخلايا داخل المؤسسة العسكرية لتقويض الديمقراطية كمشروع وطني هدفه تكريس الاستقرار السياسي والوحدة الوطنية وبناء الأمة وصناعة النهضة السودانية وذلك لإنزال رؤيتهم للتغيير السياسي والاجتماعي، وتفاقمت حالة الاستقطاب الحاد بين الإسلاميين واليسار الشيوعي وتجلى ذلك في تحالف الحركة الإسلامية مع الأحزاب التقليدية عام 1965 بعد حادثة معهد المعلمين الشهيرة حيث لم تتم إدارة الأزمة بالأدوات الدستورية التي تمكن من تعزيز ومأسسة المسار الديمقراطي وأفضت إلى طرد نواب الحزب الشيوعي المنتخبين من البرلمان بل وتبع ذلك عمليات اعتداء طالت كوادر ودور الحزب الشيوعي وصفها المرحوم عبد الخالق محجوب في سلسلة مقالات ب( عنف البادية).
بعد طرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان نزعت نخب الحزب إلى إعمال مراجعات فكرية لتشخيص أزمة الثورة الوطنية الديمقراطية في السودان حيث ربطت الأزمة بالنظام الاجتماعي السوداني الذي يقف على طرفي نقيض مع المفاهيم الماركسية المثالية، وتبدى ذلك في كتاب المرحوم عبد الخالق محجوب حول البرنامج إذ يقول (ان التناقض الاستراتيجي لثورتنا الوطنية هو الاستعمار الحديث والتحالف البرجوازي شبه الاقطاعي في الداخل والطبقات المستغلة)
ولكن ماهي الرؤيا والخط السياسي للحزب الشيوعي لتجاوز هذه العقبات الاستراتيجية وإنجاز ثورة التغيير ??
بعد انعقاد المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي السوداني عام 1967 والذي جاء تحت عنوان ( الماركسية وقضايا الثورة السودانية)،تبلور اتجاهين للتغيير والثورة الاتجاه الأول يقوده المرحوم احمد سليمان، وتقديره أن اليمين السياسي السوداني اختطف منجزات ثورة أكتوبر ولابد من استعادتها من جديد عبر تحالف بين التيار التقدمي داخل المؤسسة العسكرية السودانية ، والطبقة العاملة، وقد انبرى للتصدي وتفنيد هذه الرؤيا المرحوم عبد الخالق محجوب في سلسلة مقالات تحت عنوان ( قضايا ما بعد المؤتمر) وجوهرها، ان إنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية يتم عبر آليات العمل الديمقراطي الصبور والدؤوب والتدريجي والتغلغل وسط المجتمع وليس بطريقة القفز ليلا من أعلى البيوت ، ووصف آلية الانقلاب في التغيير والثور( طريق البرجوازية والبرجوازية الصغيرة التي تتأفف عن العمل الصبور والالتحام وسط قطاعات المجتمع)، ولعل رؤية المرحوم عبد الخالق للتغيير كانت اقرب الى رؤية الاشتراكيين الأوربيين التي تعتمد الإصلاح التدريجي داخل النظام القديم وصولا إلى الثورة الديمقراطية ولكن تغلبت إرادة تيار المرحوم أحمد سليمان عندما اجهز تنظيم الضباط الأحرار التقدمي في 1969/5/25 على تجربة الديمقراطية الثانية وهي في مخاض الرؤى والتكوين.
وقد حاول اليسار الشيوعي تجيير الثورة لصالح مشروعه الفكري والسياسي والهادف إلى إحداث تغيير بنيوي يفضي إلى تفكيك وتدمير البنية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للتحالف البرجوازي شبه الاقطاعي والمتمثل في التيارات السياسية اليمينية والإدارة الأهلية والحركة الصوفية فكانت سياسات التأميم، وإلغاء الإدارة الأهلية، ومحاولة تغيير تركيبة المؤسسة العسكرية السودانية ، على أن تنهض على أنقاض هذه العمليات التجريفية تشكيلات سياسية واقتصادية واجتماعية في ثوب جديد تتناغم مع المفاهيم الماركسية في عملية الثورة والتغيير.
كما تعلمون فقد تعطلت استراتيجية اليسار الشيوعي في التغيير بعد عودة الرئيس الأسبق النميري ، وتصفيته لقيادات الحزب المدنية والعسكرية بعد فشل انقلاب المرحوم هاشم العطا، وانعطاف النميري للتصالح والتحالف مع التيارات الإسلامية الوطنية المتجذرة في التربة الاجتماعية السودانية، ولعل أسباب فشل استراتيجية الحزب الشيوعي في التغيير تكمن في عدم قراءته العميقة للمجتمعات السودانية، ففكرة الدين والاله والشريعة واوبة الحياة لله، تبقى هي الملهمة والمحركة للإنسان السوداني منذ ابكار التاريخ.
كان من المتوقع أن يحدث اليسار الشيوعي ثورة فكرية ومراجعات في النسق الماركسي وتكييفه مع الواقع الاجتماعي والثقافي السوداني لاجتراح مقاربة فكرية تفضي إلى تشكيل حزب اشتراكي ذي خصوصية سودانية يساهم في صناعة الثورة الوطنية الديمقراطية ، ولكن وبطريقة الهروب إلى الأمام صنف الحزب الشيوعي المؤسسة العسكرية السودانية بأنها جزء من التحالف البرجوازي شبه الاقطاعي، وعقبة أمام ثورة التغيير ولذلك ينبغي تدميرها وتحطيمها، وطفق اليسار الشيوعي متحالفا مع حركات الهامش السوداني والغابة المسلحة.
هذه المعادلة الصفرية أدت لاضعاف التجربة الديمقراطية الثالثة (1986_ 1989م) وغدت القوة العسكرية هي الاصل في التغيير وفي لحظة توازن القوة الفارق بين مشروعي التيار الإسلامي الوطني ومشروع الهامش المسلح المتحالف مع اليسار الشيوعي استبق مشروع الحركة الإسلامية واستلم السلطة في السودان في يونيو 1989م. وعطل من إنجاز مشروع اليسار الشيوعي والغابة المسلحة لثلاثين عاما حيث اختزلت الغابة المسلحة فكرة مشروع السودان الجديد في دولة فاشلة، وتقترب الدولة السودانية الأم من شفير الانهيار.
ان تحليل التجربة السياسية الوطنية من منصة التأسيس الاولى في فجر الاستقلال عام 1956 إلى اللحظة التاريخية الراهنة فإن محصلة التجربة السياسية الوطنية هي الدولة شبه الفاشلة والمأزومة اقتصاديا واجتماعيا وهوياتيا، والسبب الاستراتيجي لذلك تعاطي الأحزاب السياسية الوطنية خاصة الاحزاب العقائدية لقضايا البناء الوطني الاستراتيجية من منظور ايديولوجياتهم الحزبية، وثمرة هذا الإختلال فشل مشروعات الأحزاب السياسية السودانية وتشظيها على ذاتها، وتعطيل المشروع الوطني الديمقراطي ، والأخطر قابلية تشظي وانهيار الدولة السودانية،وطوق النجاة من هذا السيناريو الخطير تحرر كل القوى السياسية الوطنية من ايديولوجيا الذات الحزبية إلى ايديولوجيا القضايا الوطنية الكبرى
وهذا المشروع يتطلب حوارا استراتيجيا ومثمرا بين الأحزاب اليسارية وفي طليعتها الحزب الشيوعي والأحزاب اليمينية وفي طليعتها التيار الإسلامي الوطني بتجلياته السياسية والتنظيمية.
ونواصل بإذن الله