-١-
ما يُميِّز السيد ياسر عرمان عن كثير من السياسيين، أنّ لديه من خبرة عملية وتجارب ثرية، تفتح أمامه مدىً واسعاً للرؤية و(الشوف العريض).
رغم ما كان بيننا من وُدٍّ وصداقة في نطاق العام، كنت كثيراً ما اختلف مع ياسر في بعض المواقف أو التعبير عنها، وحدثت بيننا بعض المُخاشنات المحدودة.
كُنت في السابق، أعيب عليه الحماس والاندفاع الزائد وسرعة الاستجابة للاستفزازات والإفراط في التكتيكات وإهمال الاستراتيجي.
أدعي أنني من أكثر الصحفيين معرفةً ومُتابعةً لمسيرة عرمان لعشرين عاماً، منذ كتابي الأول عن الشماليين في الحركة الشعبية.
-٢-
التقيت بعرمان قبل أيام – صدفة دُون ميعادٍ – بفندق السلام روتانا، ودَارَ بيننا ومجموعة محدودة من الزملاء نقاشٌ ثرٌّ وصريحٌ امتدّ لساعتين.
ياسر أصبح أكثر موضوعيةً وعقلانيةً وهُدوءاً، يعبر عن نفسه بكل شجاعة ووضوح، ولا يخشى من المُزايدة عليه.
وجدت عرمان:
عقلاً سياسيّاً مُتّقداً، قادراً على إجراء المُقاربات بين تصوراته وحيِّز الممكن والمتاح.
لا يتحرّك بالأماني، ولا تحرِّضه الأحقاد، ولا تجد في حديثه مرارة تفسد مذاق القول وتضرس السماع.
قادرٌ على رصف الطرق التي تفصل بينه ومن هم في الضفة الأخرى، دون التنازل عن مواقفه ورؤاه.
طالبني بممارسة نقد ذاتي لتجربتنا الصحفية، قلت له مُمازحاً:
عليكم أن تسبقونا لذلك كسياسيين بتقديم القدوة!
قناعتي: لو كان هنالك سياسيٌّ مبررٌ له تصفية الحسابات وفشّ الغبينة مع أنصار النظام السابق لكان ياسر عرمان.
كان عرمان من أكثر السياسيين تعرُّضاً للهجوم المُكثّف والانتقادات اللاذعة والشيطنة من قبل أهل الإنقاذ.
-٣-
لأكثر من مرة وعلى أكثر من منبر، دعا عرمان لعدم إقصاء الإسلاميين من المشهد، والسماح لهم أن يظلوا آخرين، مع تسديد كل فواتير أخطائهم.
هو في ذلك لا يُعبِّر عن تعاطف ومحبة، ولا يهدف لعدم المحاسبة.
ولا يتّخذ موقفاً ممانعاً ضد المُساءلة والعقاب لكل من أجرم وأفسد.
عرمان بحصافة السياسي، يُريد التمييز بين الصالحين والطالحين ويدعو للمحاكمة على الأفعال والجرائم، لا حسب البطاقة الحزبية.
دعوة عرمان ليست نداءً يسوعياً من أجل التسامح والإخاء، لوجه الله ومصلحة الوطن.
هو سياسي يعرف ما يُمكن أن يترتّب على القمع والإقصاء الجماعي من ردود فعل، واسعة الضرر بالبلاد والممارسة.
-٤-
في حواره مع صحيفة “المواكب” قال عضو المجلس السيادي محمد الفكي:(ليس لدينا عداوة تجاه الإسلاميين وحربنا على المؤتمر الوطني).
لوكان بإمكان جهة أن تقضي على خصومها السياسيين وتمسح وجودهم من الخارطة الوطنية، لنجحت سلطة الإنقاذ في ذلك!
حينما دخلت جنة السُّلطة وظنت – ظالمة لنفسها – بألا تبيد هذه أبداً، فكان السقوط الداوي المُذل.
السُّلطة مُغرية بالقوة، ومعمية للبصيرة، وموهمة بطول الأجل واستدامة النعيم.
لمصلحة الوطن وترسيخ الاستقرار لا خيار سوى إنهاء لعبة الإقصاء والإقصاء المُضاد.
-٥-
تجريم كل الإسلاميين ووضعهم في (فتيل الإدانة) واعتقال كل قياداتهم المُعتدلة والمُتطرِّفة، نهجٌ سياسيٌّ غير حكيم ولا رشيد ولن يأتي بخير.
حينما أقصت الإنقاذ، مُعارضيها وأغلقت أمامهم منافذ المُمارسة السلمية، لم يكن أمامهم سوى الالتجاء للعُنف وإشعال الحرائق.
وعندما انقسم الإسلاميون بين (وطني وشعبي)، وتمّت مُحاربة حزب الترابي بأدوات السُّلطة في الخرطوم، كان خيارهم إشعال الحرب في دارفور.
هذه قاعدة مُستلفة من قوانين كرة القدم: (مع التكتُّل الدفاعي يكون الهجوم عبر الأطراف)!
-٦-
من الذكاء السياسي ألا تدفع بخصمك لخيارات اليأس، والنزول للعمل تحت
الأرض بعيداً عن الضوء.. بل الأفضل أن تدعه في دائرة المسؤولية تحت المُتابعة والرصد والمُساءلة على الأفعال.
السودان – لا كمصر – ليست به جهة قادرة على احتكار العُنف وفرض إرادتها بالقوة.
السودان لعوامل عديدة وطنٌ هشٌّ، كل شيء فيه قابل للكسر والاشتعال، يكفي فقط عود ثقاب أو كلمة طائشة!
-أخيرا-
قد تنجح السُّلطة الانتقالية في إحكام السيطرة على المركز والحد من نشاط الإسلاميين، ولكنها ستفشل – كما فشل أهل الإنقاذ من قبل – في الحد من حرائق الأطراف، ألم ينشد الكتيابي:
أوَ لم تتب أمس القريب
من التضرع للمنابر والعوابر والعيون
أوَ لم تعاهد بطن كفك أن تطوع مِقود النفس الحرون؟!
عجباً لقلبك تنشد التقوى
وتركب للهوى عمداً قطارات الجنون!!