وقفت أمس أمام مقبرة جماعية في منطقة وادي سيدنا العسكرية، رجحت النيابة أنها لشهداء 28 رمضان.. رأيت لأول مرة، هياكل عظمية وجماجم، مرتصة قرب بعضها البعض..
المشهد كئيب والشعور مُربك، أي حكمة هذه التي تقود إلى معرفة مكانٍ طال انتظاره لمدة 30 عاماً..؟!
حينما ابتعدت قليلاً من الفرق الفنية التي تعمل بإخلاص من الفجر حتى المغيب، تساءلت، هذه الهياكل العظمية، لمن من الضباط؟
لا أعلم لماذا تذكرت بدءاً، ضابط المعاش سيد أحمد النعمان، الذي لم يكن له صلة بالإنقلاب، ولا علم له به.. وجد نفسه في السجن فجأة، ثم اقتيد إلى هذه المساحةِ الواسعة ليُعدم..
وأيضاً عصام أبو القاسم الذي كان في ذلك اليوم مريضاً بالملاريا، قريباً من الموت، فنزع عنه أحد “قُساة القلوب”، “دريب” موصول بيده في المعتقل، ليركب عربة الموت ويموت شهيداً بالرصاص قُرب جبل سركاب..
تذكرت إفادات بعض المصادر وإن لم تكن مؤكدة، أن الضابط مصطفى خوجلي كان أحد الذين دفنوا وهم على قيد الحياة..!
استحضرت ذاكرتي الضابط بشير الطيب الذي ظل مضرجاً بدمائه ليومٍ كامل، قبل إطلاق الرصاص عليه.. وأيضاً أكرم الفاتح الذي تمكن من كتابة وصية سريعة لأسرته، بأن يُسمى طفله الذي كان في رحم الغيب “أكرم”..
وقد ولد أكرم وأصبح رجلاً، وقد حكى لي أنه التقى بأبيه في الحلم مرتين وتحدث معه..
كان لكل ضابطٍ قصة وتفاصيل مختلفة، تجمع بين بعضهم علاقات صداقة قوية، فتساءلت هل ماتوا واستشهدوا قرب بعضهم..؟
تذكرت والدة معاوية يس التي قالت إنها لم تبكِ ابنها بعد أن أنزل الله عليها الصبر.. وكذلك العقيد أركان حرب (م) محمد عباس غالب، – نسأل الله له الشفاء العاجل- الذي كان يبكي أمامنا مثل طفلٍ صغير وعمره تجاوز السعبين وهو يتذكر أصدقاءه الشهداء..!
لم تكن “مذبحة” الضباط، مجرد إنقلاب فاشل، إنها قصة كبيرة، تفاصيلها عديدة، تستحق أن تروى في تاريخ السودان.
إنها تثبت أن السلطة كانت في نظام الإنقاذ فوق أي علاقات وإنسانيات، أنك ببساطة قد تقرر إعدام زميلك وصديقك، لأنه رأى أنك لا تصلح للحكم..!