يقيني أن شباب الثورة كانوا سيخرجون في الثلاثين من يونيو في كل الأحوال، وما كانوا سيأبهون بأي دعوةٍ تحضُّهم على عدم التظاهر، وما كانوا سيستجيبون لأي مُناشدةٍ تطالبهم بالتزام المنازل.
كانوا سيخرجون في كل الأحوال، غير آبهين بمخاطر التظاهر، ولا مُبالين باحتمالات تعرضهم إلى العدوى بالجائحة القاتلة.
يخرجون تصحيحاً لمسار ثورتهم المجيدة التي فجروها بفتوتهم اللافتة، ومهروها بدمائهم الزكية، وتوجوها بإسقاط واحدةٍ من أعتى الدكتاتوريات في التاريخ الحديث.
دوافعهم كانت معلومة، واستهانتهم بالموت غير مستغربة، فهم من جيل )الفُرَّاس الراكب الراس(، ممن كتبوا على صدورهم العارية )حباب الطلقة(.. لا يعرف الخوف إلى قلوبهم سبيلاً، ولا خلاف على أنهم لفتوا أنظار العالم أجمع بجرأتهم وشجاعتهم واستهانتهم بالمخاطر، سعياً لإعلاء راية الوطن.
يخرجون لأنهم )جيل مختلف.. جيل من محنَّة ومن جسارة ومن وِلِف(، لكن الحكومة ومكوناتها السياسية كانت مطالبة بحضهم على عدم التظاهر في زمن الكورونا، خوفاً عليهم من التقاط العدوى، طالما أن حالة الطوارئ )المعلنة بأمر الحكومة نفسها( ما زالت سارية.
لا يستقيم قانوناً ومنطقاً أن تُعلن السلطات حالة الطوارئ الصحية، وتطبِّق حظراً للتجوال تحبس به الناس في بيوتهم، وتمنعهم من العمل، وتغلق مكاتب الدولة، وتوقف المواصلات العامة، وتغلق المطارات والموانئ والمعابر والجسور، وتعطل السفر بين الولايات، وتغلق المتاجر والأسواق والمصانع، وتفرض على آلاف العالقين أن يبقوا خارج بلادهم، معرضين لويلات الجوع، ومخاطر الفاقة والعدوى، بادعاء أن عودتهم قد تضاعف حجم الإصابات بالداخل، ثم تأتي لتحض الناس على التظاهر )أو الاحتفال( في مسيرة مليونية.. الله وحده يعلم عدد الإصابات التي ستنتج عنها، في دولة نظامها الصحي منهار، ومستشفياتها خارج نطاق الخدمة، وصيدلياتها مقفرة من الأدوية!
من عجبٍ أن من يقود آلية الطوارئ الصحية التي أغلقت البلاد، وحظرت التجمعات، ومنعت الحركة والعمل عضوٌ في لجنة السيادة، ومن دعا الشباب إلى التظاهر والاحتفال عبر مليونية الثلاثين من يونيو عضو في مجلس السيادة نفسه.. حيث يصدر الشيء ونقيضه، ويتم حظر التجمعات والسماح بها في الوقت نفسه.
ثم.. من قال لمن زيَّنوا للشباب خروجهم في يوم المليونية أنهم سيتظاهرون )للاحتفال( بذكرى الثلاثين من يونيو؟
الحديث عن الاحتفال يمثل تدليساً فاضحاً، واستهبالاً سياسياً لا تخطئه عين، لأن مسوغات الخروج المعلنة، والمطالب المشهرة للمسيرة لم تحوِ أي إشارة إلى احتفال، سيما وأن هؤلاء الشباب لم يروا من سلطتهم الانتقالية ما يستوجب الحبور والاحتفال.
المطالب المعلنة تتعلق كلها بتصحيح مسار السلطة الانتقالية، والحديث عن التصحيح يدل على وجود أخطاء مؤثرة، وتقصير فادح، أجبر هؤلاء الشباب على تجديد المجازفة بالحياة، ومعاودة الخروج إلى الشوارع سعياً إلى إلزام حكومتهم بتقويم أدائها، وتحسين مردودها، وتلبية مطالبهم المشروعة، واحترام نصوص الوثيقة الدستورية التي ألزمت الموقعين عليها بتكوين المجلس التشريعي في ثلاثة أشهر، مضت ثلاثة أضعافها من دون أن يبرز المجلس إلى العلن.
يفترض في المستوى التنفيذي للسلطة الانتقالية أنه )مدني مائة في المائة(، ومن ينظر إلى حاله الآني سيجد أن )16( ولاية من ولايات السودان الثماني عشرة يحكمها عسكريون، وأن الولايتين الوحيدتين اللتين يتربع على قمتهما مسئول لا يرتدي الكاكي، ولا تحمل أكتافه صقوراً ومقصَّات يحكمهما شخص واحد!
والي الخرطوم المُكلَّف )يوسف الضي( هو نفسه والي النيل الأبيض المُكَّلف، وهو ذاته وزير الحُكم الاتحادي!
رجل واحد، يتربع على ثلاثة مناصب في غاية الأهمية، ويؤدي ثلاث وظائف تتطلب كل واحدةٍ منها تفرغاً كاملاً من شاغلها، وكأن حواء السودان، أو فلنقل حواء قوى الحرية والتغيير عقمت عن إنجاب غيره.
فوق ذلك فإن )سِيد الحيشان التلاتة( يشارك أيضاً في مفاوضات السلام بالجنوب، ويسافر أحياناً مع بعض أعضاء مجلس السيادة إلى الولايات، تاركاً حيشانه الوسيعة بلا حارسٍ ولا أنيس، ومنها واحد يسكنه رُبع سكان البلاد.
نعود إلى شباب الثورة، ونذكر أننا توقعنا من وزير الصحة الاتحادي أن يمارس مهامه، ويرضي ضميره، ويبر قسمه المهني، ويؤدي واجباته تجاههم ولو باللسان، وذلك أضعف الإيمان، ناصحاً ومحذراً ومنذراً إياهم من المخاطر الصحية المُحتملة للتظاهر، سيما وأنه خرج في السابق كي يُنذر الناس ويخوفهم من الموت الزؤام، إن هم تجاهلوا تنفيذ تدابيره الصحية.. لكنه لم يفعل هذه المرة، واختار الصمت المريب، مع تمام علمه بالتداعيات الصحية الكارثية للمسيرة، عطفاً على ما حدث في أمريكا بعد التظاهرات التي اندلعت احتجاجاً على مقتل جورج فلويد، عندما ارتفع عدد الإصابات إلى أكثر من أربعين ألف حالة يومياً بعد أقل من أسبوعين.
كذلك انتظرنا من وزير الشئون الدينية أن يحذر أولئك الشباب بأن لا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، وينذرهم من ما قد تجره مسيرتهم على أنفسهم وذويهم، ويُذكِّرهم بأنهم قد يدفعون فاتورة التظاهر من حساب آبائهم وأمهاتهم وبقية أحبابهم بعد حين، لكنه جارى رفيقه المسئول عن الصحة، واستعصم بالصمت خوفاً من تداعيات التصريح.
اللوم المُوجَّه للحاضنة السياسية لحكومة الثورة لن يخطئ معارضيها، الذين رموا بصناراتهم في بركة التظاهر عمداً، وطالبوا قواعدهم بالخروج إلى الشوارع للتعريض بنواقص الحكومة، والتنديد بها، والسعي إلى إسقاطها، وما دروا أنهم أسقطوا أنفسهم في امتحان المبادئ قبلها.
لم ينجح أحد في امتحان الثلاثين من يونيو.. كلهم رسبوا في مادة الأخلاق، وسجلوا فيه صفراً كبيراً، يليق بإرثهم الفقير، وحاضرهم المُجدب.
من دعوا الشباب إلى التظاهر في زمن الكورونا مارسوا سقوطاً أخلاقياً وسياسياً يليق بهم.