مؤتمر الشركاء: دبلوماسية الثورة مقابل دبلوماسية الكيزان – صلاح شعيب
أسست الدولة المركزية للحركة الإسلامية في عقودها الثلاثة تناقضا منحطا في دبلوماسيتها الرسالية المدعاة. إذا كان التناقض مفهومًا بدافع الذرائعية التي يعتمدها الكيزان للوصول إلى غاياتهم الاستبدادية، فإن الانحطاط مرده إلى ابتذال المهنية في العمل الدبلوماسي. وقد عايشنا فسادا دبلوماسيا، للدرجة التي تأتي فيها خارجية غندور بدبلوماسي ممثل للبلاد في الأمم المتحدة لا يحسن قراءة الإنجليزية، والتحدث بها بطلاقة كما كان يفعل دبلوماسيونا قبل خمسين عاما. وهناك آخر جلبته موازين القرابة إلى سفارتنا بكندا فاستمرا امتهان نفسه، والدولة التي يمثلها في ملاحقة فتيات الحانات. وكثيرون من دونهما وقفنا على آثار سرقتهم لدراسات بحالها من الإنترنت، وبعضهم يتاجرون بالصفقات في روسيا، ومنهم جلبتهم قرابات، ومحاصصات، بلا أدنى تأهيل علمي.
الحقيقة أنه بسبق إصرار دمر الإسلاميون إرث الخارجية السودانية التي كان لها حضور مميز، ورائد، في مرحلة عدم الانحياز، ومؤتمر اللاءات الثلاثة، ودعم التحرر في العالم الثالث. وذلك حين كنا ندعم نضال جيفارا، وناميبيا، ونمنح مانديلا، ومريم ماكبا، الجواز السوداني، ونسهم في إنقاذ الفلسطينيين من المحارق الاسرائيلية.
وقد كانت دبلوماسيتنا ذاخرة برموزها المفكرين أمثال المحجوب، وجمال محمد أحمد، ومنصور خالد، وآخرين رموز. ولكن كل هذه البناءات المتينة لسمعة طيبة للدبلوماسية السودانية في عهود الديموقراطية، والشمولية حتى، حطمتها الحركة الإسلامية لتحل محلها ما سمي الدبلوماسية الرسالية، والتي هي النقيض لكل ما هو رسالي. إذ جلب المؤتمر العربي والإسلامي بقيادة السنوسي كل معارضي الأنظمة في المنطقة في خطوة قافزة فوق حقائق الواقع لتحرير هذه الشعوب، وإقامة الخلافة الإسلامية، كهدف أقصى. وتحت ضغط الواقعين الإقليمي والدولي تخلت الحركة الإسلامية عن تلفيقات رساليتها الدبلوماسية لتقع في أحضان الأنظمة الضد للخلافة الإسلامية التي يستهدفها مشروع الإخوان المسلمين في المنطقة.
وعاصرنا في الأيام الأخيرة كيف أن الإسلاميين بعد مشاركتهم في رعاية الإرهابيين، وتصدير الإرهاب، قد اشتروا وباعوا في مزاد التخابر الإقليمي والدولي. فمن جهة عمقوا علاقتهم بالاستخبارات الغربية، والاميركية خاصة بعد حادثة سبتمبر، وتكاثف تعاونهم الغربي المهرول حتى يجنوا الاستمرارية. ومن جهة أخرى أداروا ظهرهم للدول التي دعمتهم، وشاطرتهم عبء التمكين الإسلامي في المنطقة، وانحازوا للدول التي تستهدف أقرانهم الإسلاميين في الإقليم بلا هوادة، وسلمت الحكومة بعض شباب الإسلام السياسي لدولهم فتم قتل بعضهم، وتعذيب بعض آخره، وسجنهم. وتلك هي الرسالية التي يقصدها معربو دبلوماسية الإنقاذ.
الآن جاءت الفلسفة المهنية لحكومة الثورة حتى تعيد السودان لمحيطه الإنساني، ودبلوماسيته إلى تاريخها الزاهر، والمشرق، الذي تكلل بتحقيق سمعة طيبة للسودانيين. وفي المقابل جلبت دبلوماسيتنا قبل الإنقاذ بنيات استراتيجية بانت في مناحي الاقتصاد، والزراعة، والتعليم، والطرق، والمنح الأكاديمية، والمساعدات الصحية، والثقافية، والمنشآت الحكومية إلخ.
إن نجاح مؤتمر السودان الذي انعقد بالأمس لا يمثل سوى بداية لما تتطلبه دبلوماسية الثورة في ضرورة توظيف الوعي بمصلحة البلاد لعقد علاقات متينة مع المحيطين الإقليمي والدولي. على ألا يكون السودان عندئذ معتمدا باستمرار على الإعانات، كما ظل حال نظام الإنقاذ، وإنما شريكا أساسيا – بعد نهوضه – في حفظ السلام الدولي، وتحقيق المنفعة الاقتصادية بين الدول الأعضاء في المنظومة الأممية. ذلك لكون بلادنا – بما لديها من موارد اقتصادية هائلة – تستطيع أن ترد الدين لأصدقائها، بأن تغرق العالم بمنتجاتها الزراعية، والحيوانية، والنفطية، والمعدنية، على مستوى الإقليم، والعالم.
وبمثما أن الدبلوماسية السودانية منذ نشاتها قد ساهمت في عقد اتفاقات مع دول الخليج للإسهام في نهضتها في كل المجالات، فإن دبلوماسية الثورة متى ما تحقق الاستقرار في البلاد، واتفاق النخب الثورية على استراتيجيات النهوض، تستطيع أيضا أن توظف هذا الدعم الإقليمي والدولي لتفجير هذه الموارد الاقتصادية للاكتفاء المحلي، وإعانة الدول الداعمة بما تحتاجه من منتجات كذلك. بل إن بلادنا – يمكن في حال ترشيد الدعم الآني لإصلاح المشاريع الاقتصادية التي دمرتها الحركة الإسلامية – أن تكون نموذجا يحتذى في المنطقة للحاق بالتطور العالمي. إذ ما تزال ثرواتنا البكر على سطح الأرض، وباطنه، كامنة، وتحتاج إلى القليل من العقل التنموي الراشد لاستخراجه في مدى قصير.
فالسودان يمكنه أن ينهض في خلال خمسة سنوات فقط متى ما قدمت نخبه السياسية المصلحة الوطنية على الحزبية. وقد عايشنا في الشهور الماضية تشاكا حزبيًا بين قوى الحرية والتغيير ما أدى إلى تشرذم مكوناتها. ولعل هذا الاختراق الذي حققته حكومة حمدوك دبلوماسيا ينبغي أن يحفز شركاء السلطة على ضرورة ترميم تحالفهم المتشظي، وتقدير الثمن الغالي التي دفعه شهداء الثورة السودانية لتحقيق دولة المواطنة.
إن هذه الخطوة الجديدة لحكومة حمدوك لاستقطاب الدعم الدولي تمثل محرقة لحجج الإسلاميين في الدفاع عن مشروعهم رغم انهزامه من داخله، وكشطه لمزبلة التاريخ. ويتوجب على المشككين من الإسلاميين في عائد الدور الدبلوماسي الجديد، ووضع البلاد تحت البند السادس، ان يصمتوا لو انهم تذكروا زيارة البشير الأخيرة لروسيا التي طلب عبرها حماية دولة بوتين الشيوعية.