قبل أكثر من ١٥ عاما تم تنظيم إحدى المؤتمرات الأفريقية بالخرطوم، كان رئيس اللجنة الإعلامية هو الدكتور إبراهيم دقش ، أذكر إننى انتقدت المؤتمر بقسوة فى جريدة الصحافة . رد الدكتور إبراهيم دقش على مقالي بطريقته الخاصة الساخرة فى جريدة الخرطوم ، وقال ( ظهر نوع جديد من الصحفيين يكتب بطريقة لم نالفها فى جيلنا ، صحفى أسمه طارق شريف طلب من وزير الثقافة أن يجلس فى منزله وياخذ مرتبه ووصفه بالبلوى تصوروا ) ووجه دقش كلامه الى مجلس الصحافة والمطبوعات ، ضحكت من كلام دقش وأعدت نقدي للوزير صباح اليوم التالي فى الصحيفة كنت غاضبا على هذا الوزير المتشدد الذى جمع الفنانين والشعراء والادباء والصحفيين وتحدث عن حرمة الغناء ، قلت أن فى كلامه تناقضا لأنه يتولي منصب وزير دولة بالثقافة !
بعد أيام زرت الدكتورة بخيتة أمين وهى شخصية نادرة على طريقتها رغم انها استاذتى وكان يمكنها الطلب منى إيقاف المعركة الحامية بينى وبين زوجها ولكنها لم تفعل لانها تري فى الصحافة مهنة لاتعترف الا بحرية الرأي .
بعد سنوات من معرفتى بالدكتورة بخيتة أمين ، تعرفت على الدكتور دقش ، من أول لقاء حدث بينا توافق وكأننا نعرف بعض منذ سنوات وأصبح صديق قريب من القلب زرته عشرات المرات فى بيته بحى ود البنا وزرانا كثيرا فى منزلنا بحى القلعة بام درمان وأصبح محبوبا جدا من أسرتنا ظل شقيقى الأكبر محمد صالح يذكرنى بانه لايمل الجلوس مع الدكتور ابراهيم دقش لانه رجل موسوعى ويستفيد منه كثيرا من المعلومات الجديدة .
كان دقش زول حبوب ويتمتع بثقافة موسوعية تطرب لحديثه الذى يجئ بلا تكلف ولا مساحيق ، أجمل ما فيه بساطته ، وانت تجلس معه يخلع عباءة بروف ويحدثك باسلوب ابن البلد البسيط .
دعمنى دقش فى مسيرتى ووقف الى جانبى فى كل الكتب التى أصدرتها وكان يعتبرنى جزء من اسرته، اصبحت عضوا ثابتا فى صالون الجمعة الذى ينظم فى بيتهم وكان يطلب منى استقبال ضيوف الصالون امثال البروف على شمو ، الصحفى الراحل فضل الله محمد ، رجل الأعمال صالح عبد الرحمن يعقوب ، القنصل مصطفى عبادي ، وعدد من نجوم الصحافة والإعلام ورموز العمل النسائى .
صالون دقش كان مثله مفتوح على المحبة والبساطة ، النقاش فى موضوعات تهم الشان العام ولكن بلا تعقيد ولاجدل ولا عصبية .
صنع دقش أسرة ناجحة وأبناء فى قمة الروعة هيثم استشاري أطفال يملا الدنيا فى لندن ، وائل رجل أعمال ، رانيا موظفة بالأمم المتحدة ، سماح تعمل فى شركات القطاع الخاص ،
تعامله مع أبنائه فى منتهى الرقي والتحضر كان صديقا لهم
مثل صداقته لرفيقة عمره وزوجته الدكتورة بخيتة أمين وقد سجلت معهم حلقة من برنامج الديوان الذى كنت أنتجه لقناة النيل الأزرق وكانت من الحلقات كاملة الدسم تمت إعادتها أكثر من عشرة مرات وأعادت اكتشاف دقش وظهرت فيها بخيتة لأول مرة فى فضائية بعد مقاطعة لعشرات السنين للفضائيات وكان دقش يروى القصة فى كل مرة ويقول أن بخيتة امين رفضت الذهاب للتلفزيون فقال لها منتج البرنامج التلفزيون بجيك فى مكانك .
اخر مرة قابلت دقش كانت فى منزل دكتور الصادق الهادى المهدى فى المنشية جمعنا الحبيب الصادق الهادى على مائدة عشاء تزينت مع قفشات دقش الذى كان كعادته خفيف الظل صابرا على المرض وظل على ذلك منذ سنوات طويلة من ساعة اجرائه عملية القلب المفتوح فى جنوب أفريقيا وكتب وصيته إلا أن خرج معافى من العملية الخطرة .
رحيل دقش يمثل خسارة فادحة للإعلام السوداني الرجل كان ( ركازة ) للإعلام يحمل هموم الوطن وشجونه ، عكس صورة مشرقة عن السودان فى عمله داخليا وخارجيا .
يابا مع السلامة
ياسكة سلامة
فى الحزن المطير
يا كالنخلة هامة
قامة واستقامة
هيبة مع البساطة
وأصدق ما يكون
راحة يديك تماما
مثل الضفتين
ضلك كم ترامي
حضنا لليتامي
وخبزا للذين هم لايملكون
بنفس البساطة والهمس الحنون
تغادر ياحبيبى من باب الحياة الى باب المنون
وكأن ابيات الشاعر محجوب شريف اعلاه تصور دقش بجماله الإنساني( أن القلب ليحزن والعين لتدمع وإنا لفراقك لمحزنون يادقش ولكن لانقول إلا ما يرضى الله ) .
اللهم أجعله من أصحاب اليمين فى سدر مخضدود وطلح منضدود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لامقطوعة ولاممنوعة