مناظير – شكرا عمر البشير !- زهير السراج
رغم السوء والحالة المزرية التي كشف عنها وباء الكورونا في معظم انحاء العالم بما في ذلك بعض الدول الاكثر تقدما، إلا انه كشف عن النظام العالي والتنظيم الدقيق ورد الفعل الممتاز السريع الذي تتميز به كندا حكومة وشعبا ومؤسسات وقطاع عام وقطاع خاص وكل شيء.. ففي اقل من اسبوع من اعلان منظمة الصحة العالمية عن تحول الكورونا الى وباء عالمي، كانت كندا جاهزة تماما لمواجهته!
بسرعة جدا نظم القطاع الصحي نفسه .. اتخذت المستشفيات كل الترتيبات اللازمة للتعامل مع المرضى وتحديد أماكن خاصة للذين تثبت اصابتهم بالفيروس ويحتاجون للعلاج بالمستشفى، أم الذين تثبت إصابتهم وليسوا في حاجة للعلاج فعليهم البقاء في منازلهم والاتصال بأرقام هواتف وإيميلات مراكز الطوارئ عند الحاجة والحصول على النصيحة او الخدمة المناسبة، تحاشيا للضغط على المستشفيات والتأثير على النظام الصحي رغم قوته ومتانته!
تم بشكل عاجل الاعلان عن تأجيل الحالات الباردة، والاتصال بشكل شخصي عبر الهاتف والإيميل والبريد العادي بالمرضى الذين لديهم مواعيد لإجراء فحوصات أو عمليات غير عاجلة وإخطارهم بإعادة جدولتها في وقت لاحق مع التنبيه عليهم بالتوجه نحو قسم الطوارئ في حالة حدوث ما يستدعي ذلك، وإخطارهم من حين لآخر عند تحديث الإجراءات، بينما ظلت أقسام الطوارئ في المستشفيات والمعامل ومراكز التشخيص خارج المستشفيات تعمل بشكل طبيعي مع اتخاذ الإجراءات الوقائية الصارمة لمكافحة انتشار العدوى.
عيادات الاطباء ظلت تعمل بشكل طبيعي، ولكنها اتخذت شكلا آخر، فبدلا من الذهاب الى الطبيب، هو الذى يجب ان يحضر الى منزلك عبر الهاتف أو الفيديو كونفرنس، كل ما عليك ان تفعله هو الاتصال بالعيادة لأخذ موعد، وفي الموعد المحدد يتصل بك الطبيب ويستمع الى شكواك ويعطيك النصائح المناسبة، وإذا كنت في حاجة الى فحوصات يرسل طلب الفحص عبر الايميل الى اقرب معمل لمنزلك، فيتصل عليك المعمل ويحدد لك موعدا للحضور لأخذ العينات، وإذا احتجت الى دواء يرسل الوصفة بالايميل الى الصيدلية التي تتعامل معها وعليك إما ان تذهب إليها لاستلام الدواء أو تطلب توصيل الدواء الى منزلك وهي خدمة مجانية، اما اذا كنت تعاني من حالة طارئة فعليك الاتصال بخدمة الطوارئ لتأتيك عربة الإسعاف خلال دقائق !
أنشأت إدارة الوبائيات موقعا إلكترونيا بعدة لغات يستطيع أي شخص يعانى من اعراض او يشك انه مصاب بالكورونا الدخول إليه والإجابة على أسئلة صُممت بطريقة معينة بلا او نعم وعند اكتمال الاجابات تأتيك النصيحة المطلوبة فورا، إما بالاتصال بهواتف الطوارئ المخصصة للكورونا أو البقاء في المنزل .. كما يوجد في الموقع كل شيء عن الكورونا في كندا وبقية انحاء العالم.
يعقد رئيس الوزراء مؤتمرا صحفيا يوميا يتحدث فيه للمواطنين عن الكورونا وكل ما يتعلق بها على المستوى الاتحادي، مثلا الدعم المالى الذى قررته الحكومة الاتحادية للمؤسسات والمواطنين لمواجهة اجراءات الاغلاق ..إلخ، وهنالك مؤتمر صحفي يومي لحاكم الولاية وعدد من المسؤولين (حسب الحاجة إليهم) للحديث عن الكورونا على المستوى الولائى مثل إجراءات الغلق والفتح والموقف الصحي.. إلخ، بالإضافة الى مؤتمر صحفييومي لعمدة المدينة عن الوباء على مستوى المدينة والاجراءات الخاصة بها، ويستطيع أي مواطن وهو جالس فىمنزله أن يسأل أى واحد من هؤلاء المسؤولين عبر الهاتف او الرابط المخصص للمؤتمر، ويستمع لإجابة منفصلة على سؤاله (موش بطريقة الكوم الماشةفي بلدنا) .. كل ذلك يحدث بتنسيق كامل بين الجهات المختلفة بدون حدوث تضارب فى مواعيد المؤتمرات الصحفية المختلفة.
كل الجهات على كافة المستويات تعمل في تناغم وتنسيق كامل وكأنها تأخذ أوامرها من شخص واحد .. وهي لا تأخذ تعليمات من أحد ولكنها المؤسسية الكاملة في أعلى درجاتها .. الحكومة الاتحادية تتحمل عبء المرتبات عن كل مؤسسات القطاع العام والخاص التي اغلقت، الحكومات الولائية تتحمل عبء تكلفة اعاشة الذين فقدوا وظائفهم والذين لا عمل لهم في ولاياتهم، ويصل الاستحقاق المادي الى حساب المواطن في البنك قبل اول الشهر، بدون ان يتحمل أي عبء سوى التقديم عبر المواقع الالكترونية الخاصة بذلك. كما تتحمل الحكومة الولائية تكلفة المواصلات العامة التي تحولت الى مجانية منذ بداية الوباء، بينما تتحمل حكومة المدينة عبء حفظ الامن ومراقبة اجراءات الطوارئ الوقائية في المدينة ..إلخ وهي لا تحتاج لتراقب شيئا، فالكل يلتزم التزاما صارما بإجراءات الغلق والفتح والاجراءات الوقائية الاخرى التي تحددها حكومة الولاية في المدن التي تتبع لها من حين لآخر!
مراكز الخدمات الموحدة ظلت تعمل بانتظام مع الالتزام الصارم بالإجراءات الوقائية، وكذلك المصارف مع توفر الخدمات الإلكترونية في نفس الوقت. المكتبات العمومية أغلقت ابوابها ولكنها وضعت الاف الكتب والمواد الاخرى للاستخدام (اونلاين)، بالإضافة الى خدمة طلب الكتب والمواد الاخرى عبر الموقع الإلكتروني .. والذهاب لاستلامها خارج المكتبة في ظرف مغلق ومعقم بعد تحديد موعد الاستلام عبر الموقع. يمكنك ان تستلف خمسين مادة (من كتاب الى مجلة الى فيديو الى سي دى..إلخ) في نفس الوقت لمدة ثلاثة اسابيع للكتاب واسبوع للمواد الأخرى وتجديدها عبر الموقع الإلكتروني ثلاث فترات أخرى، وهى خدمة مجانية بالكامل، وحتى بطاقة المكتبة مجانية. في الظروف العادية توفر المكتبة (التي توجد في كل حي) مئات الانشطة الثقافية والتعليمية والارشادية لكل الاعمار من عمر 4 سنوات وحتى الممات!
كل شيء يسير بنظام وتخطيط وتنفيذ متقن ورد فعل سريع ومثالي لدرجة انك لا تشعر بوجود الوباء إلا في الاجراءات الوقائية الصارمة والتقارير الصحية اليومية.. لا احد يسئ الى احد ولا احد يتهجم على احد ولا شلة تتصارع على المصالح وتتفاوض على المقاعد .. وعندما يختلف الناس يختلفون باحترام!
ملايين الاطنان من الثلوج تهطل على كندا كل عام وقد يستمر سقوط الجليد اياما واسابيع بكاملها، ولكنك عندما تستيقظ في الصباح تجد الشوارع نظيفة والكل في طريقه الى مكان عمله رغم الظروف المناخية القاسية التي تصل فيها درجة الحرارة الى اقل من 40 درجة تحت الصفر في بعض الاوقات .. وفى محطة البص ترى كل الاجناس والسحنات والألوان التي خلقها الله، وتسمع كل لغات العالم، وتتساءل في صمت ودهشة من أين أتى هؤلاء، ولكنك عندما تتعامل معهم في اماكن العمل او غيرها لا ترى ولا تسمع إلا كندا فقط !
عندما اتذكر تلك الايام السوداء التي كان فيها أولادي يعيشون في خوف ورعب كلما تأخرت عن موعد عودتي من العمل، او طرق احد باب المنزل بسبب ما واجهته من مطاردات واعتقالات وارهاب في بلدي، أشكر الله الذى انقذني من النظام البائد وعوضني عن الحرمان من الاهل والاحباب بدولة النظام .. والشكر موصول الى الترابي والبشير ونظام القمع والظلم الذى ارغمني على
الخروج !
متى نتعلم أن النظام ليس هو الذى يجلس على المقاعد الوثيرة ويأمر وينهى ويقهر ويناور ويصارع ويراوغ .. وإنما الذى ينظم حياة الناس ويصبح ثقافتهم وجنسيتهم ولونهم ولغتهم وحياتهم ؟!
صحيفة الجريدة