ظللت اتحدث منذ قبل تشكيل الحكومة في اغسطس الماضي عن أهمية وجود رؤية واضحة وبرنامج عمل واضح للحكومة تهتدى به خلال المرحلة الانتقالية وتعمل على تنفيذه بشكل موحد، بالإضافة الى وجود خطة عمل واضحة لكل وزارة يجيزها مجلس الوزراء ويشرف عليها ويراقب تنفيذها ويوجه ويحاسب حتى تسير الفترة الانتقالية بطريقة منظمة، ويعرف كل وزير ومسؤول المهام التي يجب أن يقوم بتنفيذها في الزمن المحدد وبطريقة محددة، وان هنالك من يراقب ويحاسب بدلا من أن تُترك كل وزارة تعمل ما بدا لها، ويتصرف كل وزير بما يحلو له، وتتوالد الخلافات والصراعات ويتبادل الوزراء والمسؤولون الاتهامات وتكثر الاستقالات، كما يحدث الآن عيانا بيانا لدرجة أننا أصبحنا نشك في ان الذين يجلسون على مقاعد المسؤولية خصوم وأعداء وليسوا أعضاء حكومة واحدة ومجلس وزاري واحد، يجب أن يعرف فيه كل عضو حدود مسؤولياته، وحتى لو حدث اختلاف وهو أمر طبيعي، يجب ان يكون بطريقة معينة تحفظ لكل جهة وكل شخصية هيبتها واحترامها، وليس كما تفعل الغوازى !
وتحدثت عن اهمية وجود مجلس قيادي موحد ومنهج عمل ولائحة تنظيمية لقوى الحرية والتغيير لتنظيم العلاقة بين اعضاء التحالف وبينه وبين مكونات السلطة الانتقالية خاصة الحكومة، وطريقة اتخاذ القرارات وتسيير العمل السياسي خلال الفترة الانتقالية، تحاشيا لحدوث صراعات وانقسامات، ولكن لم يستمع أحد وظل الجميع في حالة تهافت لاقتسام الغنائم بعد سقوط النظام الغاشم، وكان من الطبيعي أن يحدث ما يحدث الآن من انشقاقات وحرب شرسة تدور بين كافة قوى ومكونات التحالف وحتى داخل التنظيم الواحد، ولقد انقسم البعض منذ الوهلة الاولى الى شراذم متصارعة جريا وراء المناصب والمصالح، كما ظن البعض ــ ولا ادرى من أين جاءهم هذا الظن ــ أنهم هم الذين أشعلوا نار الثورة وهم الذين اسقطوا النظام البائد، ولا بد أن يحتكروا إدارة الفترة الانتقالية ويفتوا في كل شيء ويعتلوا كل المنابر، بينما لم نر ولم نسمع لهم فعلا او صوتا في معارضة النظام البائد ولم نسمع بأسمائهم أو نرى وجوههم إلا بعد سقوط النظام !!
قلت كثيرا وأكرر، أن الاسماء ليست مهمة بقدر اهمية البرنامج وتطابقه مع مطالب الجماهير والجدية وتعاون الجميع في تطبيقه، كما ان التعويل على وجود شخص كفؤ ومؤهل في موقع القيادة أو حتى حكومة كفاءات لإحداث التغيير المنشود، محض رومانسية لا مكان لها على ارض الواقع، ولن يقود الى نتيجة سوى الفشل، فلا بد من وجود برنامج واضح وأهداف واضحة وارادة حقيقية لتحقيقها، وآليات للمراقبة والتصحيح !!
بعد الانتقادات التي كالها الدكتور حمدوك العام الماضي لقوى الحرية والتغيير لعدم وجود برنامج عمل لديها وانه لم يستلم منها شيئا، سارعت للإعلان عن اكتمال البرنامج وتسليمه للحكومة في اسرع وقت فعمت البهجة وتهيأ الناس لدعم البرنامج والوقوف خلفه، ولكننا فوجئنا بعد نشره انه مجرد حديث احلام مكتوب بلغة جميلة وعبارات رومانسية حالمة أشبه بمواضيع الإنشاء وديباجات الدساتير، وانه في الاصل منجور من الوثيقة الدستورية، وليس برنامجا بالمعنى المعروف لكلمة (برنامج) من المفترض أن يكون مبنيا على دراسات علمية ومعطيات حقيقية وجداول زمنية واهداف واضحة لتحقيقها، وكتبت حينها مقالا انتقدته فيه وقلت أنه ليس من المأمول ان يحقق شيئا يذكر، ونصحت الدكتور حمدوك وحكومته بالاستعانة بخبراء حقيقيين لوضع برنامج حقيقي قابل للتنفيذ، حتى لو تأخر الوقت، مع استمرار العمل على تسيير الأعمال اليومية ومعالجة الأزمات التي يعانى منها الناس بشكل عاجل، ووضع الرأي العام في الصورة بشكل واضح ومستمر، ولكن للأسف لم يحدث ذلك، وكان من الطبيعي أن يكون الاداء مرتبكا يعتمد على طريقة رزق اليوم باليوم رافعا شعار (أن غدا لن يأتي أبدا)، ولكن أتى الغد وبعد الغد، وها نحن الآن نعانى ما نعانى، ولا نزال في مرحلة الحديث عن اهمية وجود برنامج وخطة عمل، بل تراجعنا الى الوراء بالحديث عن الخلافات والصراعات بين الاخوة الاعداء،:وظلت الحكومة بلا رؤية ولا برنامج ولا خطة عمل حتى فى ابسط الاشياء مثل توفير الضرورات الاساسية للحياة!
كما ظلت قوى الحرية والتغيير مجرد جسم أو تكتل أو تحالف وهمى او توهمي أو في أحسن الاحوال (اعلان سياسي)، ولم تسعَ لتنظيم نفسها في تحالف هيكلي واضح للإشراف السياسي على تنفيذ مهام المرحلة الانتقالية التي نصت عليها الاتفاقية والوثيقة الدستورية بشكل منظم يؤدى لعبور الفترة الانتقالية بأمان ويجنبها الصراعات والمشاكل خاصة مع المعادلة الصعبة التي انتجت السلطة الانتقالية والاحداث المأساوية التي باعدت بين مكوناتها ووضعت إحداها في خانة العداء مع الشعب، الأمر الذى كان يتطلب الكثير من الحكمة والروية والرؤية الموحدة ومعالجة الخلافات بهدوء، ولكن للأسف لم يحدث ذلك وكان الهم الأكبر هو الصراع على المصالح وفرض الرأي والظهور الإعلامي، وظلت النخب السياسية على نفس البؤس والغباء الذى تميزت به منذ نشأتها، فكان ما كان من الفوضى والظروف المأساوية التي يعيشها الوطن والمواطن الآن!
مرة أخرى أقول .. إن الفترة الانتقالية مهددة بالفشل، بل إن السودان كله مهدد بالفشل، ولن تنقذه بعثة دولية او رفع عقوبات او معونات خارجية لو لم يتجرد الجميع من نظرتهم الأنانية الضيقة والصراع على المصالح والخوف من اتخاذ القرارات الصعبة بما في ذلك إعادة تشكيل السلطة الانتقالية بكل مكوناتها والتي أثبتت عجزها وفشلها في تنفيذ أبسط المهام الموكولة إليها، ولو استدعى ذلك تعديل الوثيقة الدستورية أو كتابتها من جديد!
ولابد أن يتخلى العساكر عن هيمنتهم على السلطة والثروة والمال واتخاذ القرار، والعمل بتجرد مع المدنيين والاستعداد منذ الآن للعودة الى معسكراتهم .. وإلا فليستعد الجميع للسقوط في مستنقع الفشل والفوضى والخراب !
الجريدة