كمال عبد الرحمن – الخرطوم – سكاي نيوز عربية
أعلنت السلطات السودانية، السبت، العثور على مقبرة جماعية دفن فيها عدد من ضحايا حادثة تعد واحدة من أكبر الجرائم في التاريخ السوداني والتي راح ضحيتها أكثر من 100 شاب من مجندي الخدمة الوطنية الإلزامية، قتلوا أثناء محاولة الهرب من معسكر للتدريب، على أمل حضور عيد الأضحى مع أهلهم.
وبعد مرور 22 عاما على الحادثة المفجعة التي وقعت في الثاني من أبريل سنة 1998، وتحديدا في قرية العيلفون، شرق العاصمة السودانية الخرطوم، قالت السلطات السودانية، إنها نبشت مقبرة جماعية دفن فيها عدد من ضحايا المجزرة، في إطار عملية تحقيق واسعة النطاق، تمهيدا لإجراء محاكمات قد تطال العشرات من رموز وقادة نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، حسب مواد قانونية تتعلق بالقتل العمد، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
معسكرات سيئة السمعة
كان معسكر العيلفون واحدا من أكثر من 10 معسكرات تجنيد رئيسية تنتشر في مختلف أنحاء السودان لتدريب الآلاف من الصبية بينهم من أكملوا لتوهم امتحانات الدخول إلى الجامعة وبعضهم يعمل في مهن هامشية، ليتم إلحاقهم بوحدات القتال في مناطق الحروب بالجنوب والنيل الأزرق.
ولم يكن معظم أولئك المجندين يلتحقون بمعسكرات التدريب برغبتهم أو إرادتهم إنما كان يتم اصطيادهم من الطرقات في حملات منظمة تجوب شوارع الخرطوم والمدن الأخرى في وضح النهار، ويتم أخذهم عنوة للمعسكرات، وكان من الطبيعي أن يخرج الشاب أو الصبي في تلك الأيام لشراء خبز أو أغراض لأسرته ولا يعود، ولا تعرف أسرته عن مكانه إلا بعد أيام من البحث المضني.
وعلى الرغم من قصص الإهانات المفرطة التي يرويها من وقعوا في قبضة معسكرات الخدمة الإلزامية في تلك الأيام، إلا أن ما حدث في معسكر العيلفون في ليلة الثاني من أبريل 1998 ظلّ جزءا من الذاكرة السودانية الحزينة، وهو ما دفع بعدد من الناشطين للمطالبة بوضع الملف في مقدمة أولويات العدالة في المرحلة الانتقالية.
وتعود القصة الحزينة إلى الحادي والثلاثين من مارس 1998 أي قبل ثلاثة أيام من الحادثة، عندما طلب المجندون من قادة المعسكر إجازة للاحتفال مع أهاليهم بعيد الأضحى الذي كان يصادف اليوم التالي من الحادثة، لكن إدارة المعسكر رفضت طلبهم واتهمتهم بالتمرد على القوانين العسكرية، وحاول البعض النجاة قافزين إلى النهر القريب من سور المعسكر، فقضى الكثير منهم غرقا، وتمكنّ البعض من النجاة.
وفي حديث خاص لموقع “سكاي نيوز عربية”، روى الشاهد “م.أ”، الذي كان متواجدا وقت الحادثة داخل المعسكر في دورة تدريبية، وكان حينها ضابطا برتبة الملازم، بعضا من تفاصيل ذلك اليوم حيث أبلغ ضباط الاستخبارات إدارة المعسكر بأن عدد من المجندين يخططون للهروب عند العاشرة ليلا، لكنهم تفاجأوا عند صلاة المغرب بأصوات طلق ناري من ناحية البوابة الرئيسية، ليكتشفوا أن المجندين غيروا توقيت الخطة وقرروا التسلل في ذلك الوقت، مما دفع الوحدة المكلفة بحراسة البوابة لإطلاق النار.
وأضاف الشاهد أن الضباط وجنود المعسكر بدأوا في التحرك نحو السور المتاخم للنيل، وكانت أصوات بعض الفارين تسمع عند ضفة النهر، مشيرا إلى أنه شاهد مجموعة تتكون من نحو 50 مجندا استقلت مركبا حديديا تعرض للغرق في منتصف النهر.
وحول السبب الذي جعل الدولة أو إدارة المعسكر لا تهتم طوال هذه المدة حتى بتقديم المواساة لأهالي الضحايا، قال الشاهد إن الوضع كان مختلفا فكل شيء كان مسيطرا عليه من القيادة العليا، فذهاب ضباط المعسكر لأهالي الضحايا أو مجرد الحديث عن الواقعة كان سيورطهم في مشاكل كبيرة.
جريمة لا تنتهي بالتقادم
ووفقا للخبير القانوني والقاضي السابق محمد الحافظ ، فإن فتح هذه القضية بعد مرور 22 عاما يأتي نظرا لفظاعة الجرم الذي ارتكب، وتفاصيلها المرعبة، فهي من نوع القضايا التي لا تنتهي بالتقادم، حسبما نصت عليه صراحة الوثيقة الدستورية، إضافة إلى القانون الدولي.
واعتبر الحافظ في حديث لموقع “سكاي نيوز عربية” أن هذه الجريمة التي راح ضحيتها أكثر من مئة شاب والطريقة التي ارتكبت بها تمثل جريمة ضد الإنسانية والدولة السودانية، لذلك فإن تداعياتها لا تنحصر على حقوق أولياء الدم فقط.
وبيّن الخبير القانوني أن رأس الدولة آنذاك، سيكون على رأس المطلوبين في القضية، والتي تشمل ظروفها اختطافا وحجزا غير مشروع، وارتكاب عمليات قتل مع سبق الإصرار والترصد.
وتوقع الحافظ أن تجري محاكمة المتهمين في “الجريمة” تحت المادة 130، حيث لم يكن هناك أي مبرر لاستخدام السلاح في ذلك الوقت، وقد تتضمن قائمة المتهمين في القضية من تنطبق عليهم شروط المساهمة الجنائية سواء من خلال المساعدة أو التحريض أو الأمر أو التنفيذ.
ومن جانبه، اعتبر المحامي محمد الأمين أن نبش قبور ضحايا الحادثة يأتي وفق قانون الصحة العامة الذي يتيح لأجهزة التحقيق استخدام كافة الوسائل القانونية الممكنة لإثبات الجريمة، وتدعيمها بالبيانات والأدلة، مشيرا إلى أن لجنة النائب العام التي تتولى التحقيق في هذه الجريمة تعمل على تحديد الجهة التي أعطت الأوامر بالقتل، والأطراف المشتركة في الواقعة.
وبدورها قالت الصحفية رجاء نمر في حديث لموقع “سكاي نيوز عربية”، إن فتح هذا الملف بعد هذه المدة الطويلة جاء كجزء من عملية سياسية اجتماعية متكاملة لم تكن ممكنة قبل الثورة نظرا لأسلوب البطش والترهيب الذي كان يمارسه النظام السابق.
ولفتت نمر إلى وجود العديد من الجرائم التي ارتكبت ضد أفراد الشعب السوداني خلال فترة حكم نظام “الإخوان” البائد، لكن الكثير منها لم يتم الكشف عنها، ولم ينال مرتكبيها العقاب، وظل الضحايا وأسرهم مغلوبين على أمرهم.
واسترسلت نمر قائلة، إنه بعد نجاح الثورة بات من الممكن لكل سوداني تعرض لظلم ما أن يطالب بحقوقه القانونية مهما طال عليها الزمن لان الجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات حقوق الإنسان لا تسقط بالتقادم، مشددة على ضرورة قيام وسائل الإعلام بدورها كاملا من أجل فضح الفظائع والانتهاكات التي ارتكبت ضد المواطنين السودانيين.
ولا تعد العيلفون الحادثة الوحيدة التي تجسد مأساة التجنيد القسري، وما واجهه الشباب السودانيون في معسكرات التجنيد والخدمة الإلزامية خلال فترة النظام البائد دون مراعاة لأي ظروف صحية أو إنسانية، حيث روى سالم أحمد، وهو رجل سبعيني فقد أثر ابنه قبل سنوات عديدة بعد أن أصيب في العام 1995 بمرض نفسي داخل أحد معسكرات التدريب بمنطقة النيل الأبيض بسبب القسوة التي تعرض عليها.
ووصف أحمد ما حدث لابنه بالعمل الذي لا يصدق، وأوضح قائلا: “عندما توقف عن التدريب القاسي بسبب إصابته بالملاريا لم يذهبوا به للمستشفى بل اعتبروه متمردا عليهم وسجنوه في مخزن للبصل لعدة أيام، وبعدها دخل في نوبة نفسية تسببت في اختفائه عن الأسرة منذ العام 2007”.
وقال أحمد والدموع تنهمر من عينيه، إن اختطاف الشباب من الشوارع والزجّ بهم في معسكرات تدريب لا تراعي أبسط القواعد الإنسانية، تسببت في مآسي كبيرة للكثير من الأسر السودانية.