كلام يا عوض دكام _ حسين خوجلي
من المشروعات الاعلامية التي اعتد بها كثيرا، حواراتي مع حزمة متميزة من نابهي أهل السودان في مجال الفكر، والثقافة، والآداب، والفنون، والمعارف الحياتية المتنوعة.
وقد وثقت لأكثر من ألف من النجيمات البعيدة والقريبة عبر برامج حوارية متعددة الأسماء، بدأتها بأيام لها ايقاع الذي بدأ انطلاقته عام ١٩٩٠م حتى عام ٢٠١٤م. ومن العناوين الأخرى للبرامج في ذات الاطار شواطئ، وقبايل العيد، وتواشيح النهر الخالد، وملتقى المساء الثقافي، ومطر الألوان، وصالون أمدرمان وغيرها.
هنالك عدة شخصيات أفلتت من الحوار إما بوعدٍ أو بخوفٍ أو ترددٍ أو هروب، وكانت شهادتها مهمة لاكمال لوحة التجارب السودانية.
وسوف افرد مقالاً عن الذين تمنيت أن أوثق لهم، ولكنهم افلتوا لأسباب طبيعية تارة وقدرية تارات.
ومن الشخصيات التي تمنيت أن أوثق لها الدكتور عوض دكام، فقد كان يمثل مزاجاً خاصاً في حركة التدافع الاجتماعي الرفيق، وكنت أظن أن شهادته في الحياة كانت ستمثل إضافة حقيقية خاصة وأنه كان من أصحاب الجرأة والاعتراف المفصح.
وقد كلفت أحد الأخوة الأطباء الذي كان يعمل معه في مستشفى الأسنان أن يتشفع لي عنده بحوار، وقد فوجئت أنه قد زارني يوماً بالمكتب معتذراً بطوارئ اعتلال الصحة والسفر وضغط العيادة الخاصة به بمدينة بحري، ورغم اعتذاره فقد أبرني بعدة زيارات حوارية مفيدة، رغم أنها لم توثق بالصوت والصورة.
وقد اصطحب معه يوماً الفنان الراحل المثير للجدل والعامر بالفرح والألوان رمضان زايد، وقد غنا لي بأمر لطيف من دكتور عوض رائعة المغربي الفصيحة “أنا ليتني زهرٌ”. ومن المعروف أن رمضان من أبناء الشلك “ترخيص مدني” كما يقول دكام ضاحكاً، كان عازفاً مجيداً لآلة العود، ومن أساطين غناء الأفراح.
ومن إلتفاتات دكتور عوض اللطيفة قوله معلقاً على المساء ميديا قوله: ( ليتك يا أستاذ حسين تفصحت وسميتها الدارمي ميديا) فقلت: من هو الدارمي؟
فقال لي مبتسما: هو ذلك الفقيه المتنسك الزاهد، وصاحب أول مؤسسة للدعاية والاعلان.
وحكى لي قصة التاجر الذي قدم للمدينة يحمل من خُمُر العراق، فباع الجميع إلا السود. فشكا للدارمي ذلك، وكان الدارمي قد نسك وتعبد، فعمل بيتين وأمر من يغني بهما في المدينة وهما:
قل للمليحة في الخمارِ الأسود
ماذا فعلتِ بزاهد متعبدِ؟
قد كان شمّر للصلاة إزارهُ
حتى قعدتِ له بباب المسجدِ
فشاع الخبر في المدينة أن الدارمي رجع عن زهده وتعشق صاحبة الخمار الأسود وكما يقول الأخوان المسلمون “أخوكم فكّ” أو كما يقول الشيوعيون “زميلكم إنفنس”، فلم يبق في المدينة مليحة إلا اشترت لها خمارا أسود، فلما نفد التاجر ما كان معه رجع الدارمي إلى تعبده وعمد إلى ثياب نسكه فلبسها.
فقلت له مترافعاً عن اسم المساء: (أنا يا دكتور أعتقد أن حل الأزمة السودانية في جوانبها المختلفة أن نعيد تشكيل الزمان والمكان والانسان في بلادنا، ومن المعالجات التي أرى انها تصلح للزمان السوداني باطلاق النهضة، الاستفادة من ساعات المساء والليل، فعند بدايتها يسحب النهار زيوله بحره الغائظ، وعرقه المتدفق، وضيق الناس بالحياة وبأنفسهم، واذا أقبل المساء أقبل الاعتدال وصفت الأنفس، ومنحنا المناخ أفضل ما عنده. فاذا أحسنا استغلال المساء السوداني والليل والفجر فإن هذا الوقت يصبح هو الأصل، فيظل البكور والاشراق وبعض النهار إضافة للكدح والانتاج.
وقد اعجبت الفكرة دكتور عوض الذي اعترف لي بأنه يبدأ حياته كاملة بعد الفجر مباشرة، ويقول لي بطريقته الساخرة: (إلا أن الليل هو صديقي الأفريقي الأول) وله في ذلك فلسفة إذ يقول بصوت عالي: ( تعرف يا حسين اللون الوحيد الأصلي في هذه الدنيا للانسان هو اللون الأسود، وكل ألوان البشر الأخرى هي مجرد بلاغة واجتهادات)
ويضيف ساخراً: ( يقولون فلان أبيض فكم هو قبيح أن يكون في لون اللبن والقطن، ويقولون فلان اخضر ولكم هو قبيح أن يكون الانسان في لون الليمون والنجيل، وكم هو قبيح أن يكون الانسان قمحي في لون التوست والرغيف، أو فلان أحمر في لون الدم والجمر، ويعدد بقية الألوان مزدرياً – ويطلق ضحكته الشهيرة والتي من صخبها “تجيب الضهبان”- اللون يا صديقي هو الأسود لا غير ويقرأ رمزية الخال الأسود على الخد الشائه بتلذذ في بيت الشاعر:
يكون الخالُ في خدٍ قبيح
فيكسوه الملاحة والجمالا
فكيف يُلام ذو عشقٍ على من
يراها كُلها في الخد خالا؟
وفي إحدى زياراته التي لا أنساها أهدى لي مجموعة من التسجيلات النادرة، فقد كان الرجل يملك أجهزة تسجيل حديثة بمنزله العامر، يسجل فيها جلساته الندية في الأدب والشعر والغناء. (هذه يا أستاذ مجموعة من التسجيلات النادرة للزنابق السوداء، أجمل وأصدق من غنوا للبشرية عبد العزيز داوود، ورمضان حسن، ورمضان زايد، وابراهيم حسين، وصالح الضي) وما زلت احتفظ بهذه المجموعة وأضن بها حتى على اذاعة المساء.
ومجتمع العاصمة يذخر بالكثير من النوادر والحكم والحكايات للرجل، تلك الاضافات التي شكلت ترياقاً ضد وعثاء السياسة، والحرب، والخصومات، ومعارك الفرقاء العقيمة.
إن حياة الراحل عوض دكام وتجربته تصلح بأن تكون واحدة من التجارب الهادية لهذا الجيل والمفتاحية لمعرفة دقائق ورقائق وحقائق الشخصية السودانية التي عجزنا جميعا أن نجد المفتاح لفك طلاسمها، أو نتسلل برفقٍ إلى أعماقها لإخراج الماسة الزرقاء المخبوءة.
فليت أصدقاء الرجل الكُثر بالداخل والخارج يتدافعون خفافاً في مساءاتٍ مشهودة لتسجيل حياته وذكرياته وتجاربه وقفشاته حتى لا تندثر وتضيع، مثلما ضاعت الكثير من الأشياء الثمينة في حياتنا دون أن نورثها للأجيال القادمات.
وإني لأشهد بأن للرجل فلسفة وتجارب عميقة في الحياة، ومنهج يصلح للتدوين والتداول. فلسفة كان يُخفيها بتعليقاته الساخرة، وضحكاته المجلجلة، ومفرداته المفعمة بالحيوية والطلاقة والغرائبية في كثير من الأحيان.
حكى لي يوماً بتجربته مع دورة القادة بالقطينة والتي أعدتها الانقاذ لتأهيل قيادات الخدمة العامة والمؤسسات والوزارات، وقد حضرها باعتباره مديرا لمستشفى الاسنان.
كان يتحدث عن هذا المعسكر بكثير من الحب والامتنان فقد قال لي: (في هذا المعسكر تعرفت على جسدي وروحي، وقد استفدت الكثير من المعارف والعلوم والفقه رغم قصر المدة التي تجاوزت الثلاثة أشهر بقليل، فقد حظيت بمعرفة مجموعة من قيادات المجتمع ما كان لي أن التقيهم أو أتعرف عليهم لولا تلك الأيام الباهرات من عمر الزمان).
قال لي: (كنا نصطف فجراً في التدريب العسكري المضني بالجري والقفز وحمل الأثقال والجمباز الصارم، وقد تعود معلمنا اليوزباشي الصارم الودود أن يخرج الكثير من الدكاترة والوزراء والوكلاء ومديري الجامعات من صف التدريب العنيف رحمة بقلوبهم وسيقانهم، وما تجمع على كاهلهم من مثقلات السنين والأمراض المزمنة.
شعرت يوماً بألم في صدري وتصبب عرقي وأصبحت ألهث في اعياء فاذا اليوزباشي إبن النوبة الطيب اقترب مني ويقول في تعاطف هامس “والدم بحن يا أستاذ”: (ممكن يا دكتور تستريح مع الخساير ديك) ورغم الاعياء فقد اطلقت ضحكة مدوية اضطرب لها المعسكر، اعجبتني مفردة “خساير” فقد كان جنابو يشير إلى مجموعة من قادة البلاد والعباد كانوا في ظنه رغم الشهادات العليا والخبرات مجرد “خساير” لا يجيدون الفعالية التي تخصص فيها. وكل صاحب تخصصٍ حفيٌ به وبصير.
وبالتفاتةٍ ذكية قال لي دكتور دكام: (ليت القيادات السياسية والحزبية في بلادنا التي تطاول عليها الزمان وبليت تجربتها وتكلست، أن يدركوا بأنهم قد صاروا من مجموعة “الخساير”. هي يا أستاذ ليست دعوة للاقصاء أو ازدراء بالعمر والتقاعد، ولكن يجب الانتباه بأننا لو لم نعترف باقتراب الأجل ودون أن نعمل بجد وحذق بتوريث تجاربنا للجيل القادم وتحميله الراية، فإننا في حقيقة الأمر سنظل مجرد “خساير” بالمعنى الغليظ الذي عناه جنابو في معسكر القطينة.
ارتحلت الأيام والليالي وتسربت من بين أيدينا، ومضى المئات من أصحاب التجارب دون أن نوثق لهم ودون أن نبني منهجاً صارماً للتسليم والتسلم. عبروا للأسف عبر طريق الشفاهية الوعر، واندثرت المعارف السودانية التي نحتاجها للفائدة والتدبر والاعتبار فهي ويال الحسرة إما في الصدور وإما في القبور.