ليس صحيحاً أن عبد الله علي إبراهيم لم يستطع “احتمال جمال زينب في عرض ملابسات وفاة والدها الشريف عمر بدر رحمة الله عليه” كما زعم، وأرجح أنه عجز عن احتمال ما صاحب تلك الواقعة وما سبقها من ملابسات، إذ أنني لم أكتب يومها في شأن سياسي ولا شخصي، إذ ما من صلةٍ ذاتيةٍ تجمعني بالراحل ولا ابنته المكلومة، ولم ألتقيهما في حياتي، والواقع أنني خضت يومها عن شأنٍ إنساني وقانوني بحت، يتعلق بجملةٍ من الحقوق الأساسية، وأهمها الحق في الحياة والكرامة، والحق في الحرية الشخصية، والمساواة أمام القانون، والحق في المحاكمة العادلة، وكتبت عن حرمة الحقوق والحريات، وقد ضمنت تلكم المبادئ كلها في لُب الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية، علاوةً على أن قانون الإجراءات الجنائية الساري ينص بجلاء على أن يبقى المقبوض عليه للتحري في حراسة الشرطة لمدة (24) ساعة، ويجوز لوكيل النيابة إذا اقتضى الأمر تجديد حبسه لمدة لا تتجاوز ثلاثة أيام، لأغراض التحري، وبعدها تنتفي سلطة تمديد الحبس عن النيابة، وتنتقل إلى القضاء حال تمديد الحبس لأسبوع، ثم تنتفي تلك السلطة عن قاضي الجنايات نفسه، لتنتقل إلى القاضي الأعلى، حال سعت النيابة إلى تمديد الحبس إلى أسبوعين، ثم تتصعد تلك السلطة لتوضع بين رئيس الجهاز القضائي المختص.
كما نرى فأن إرادة المُشرِّع في قصر فترة الحبس على ذمة التحقيق في حراسات الشرطة على وقتٍ وجيز بدت جليةً ومسببة، لتمام العلم بأن تلك الحراسات غير مهيأة للاعتقال الطويل، تبعاً لضيق مساحاتها، وسوء تهويتها، وعدم اتصالها بمرافق صحية، وقد ثبت أن الشريف بدر بقي في حراسات الشرطة قرابة نصف عام، وعندما تحبس شيخاً سبعينياً في حراسةٍ متسخة وضيقة ومزدحمة كل ذلك الوقت، وتفعل ذلك في عز زمن الكورونا فإنك تكون قد وضعته تحت رحمة الجائحة الفتاكة، ووضعت حياته على محكٍ خطرٍ. وحكمت عليه ضمنياً بالموت الزؤام.
لم يحتمل عبد الله علي إبراهيم جدلاً يتصل بشأنٍ عام، فأرسل شواظ حروفه تجاهي، وأوسعني شتماً، ووصفني (بسماجة الروح والتلوث ونذالة القلم وبأنني كاتب هِتيِّك أخرق النفس، ورماني بالسماجة ووصفني بالصفافة)، وختم مسلسل إفلاسه وهتره وتسفله وبذاءاته بعبارة (يا مزمل أنت قُح).
وردت كلمة (قُح) في اللغة للتدليل على اللؤم، مثلما أتت للإشارة إلى الخالص الخالي من الشوائب، وأجزم أنني ومهما أوتيت من حسن النية وصفاء النفس وسعة البال لن أجرؤ على أخذ تلك الصفة على محمل المدح، سيما وأن صاحبها فارق الحكمة، وآخى الجهالة والسفالة، مع أنه بلغ من الكبر عتياً، مؤثراً أن يمارس سفاهة الشيوخ، وهتر الصبية، وتفاهة من يتخذون أودية السايبر مرتعاً للبذاءات.
ذاك مقام لا يليق بمن أنفق سني عمره المديد ساعياً إلى الحصول على صفات مثقف ومفكر ومؤرخ، ونظن أنه استحق بهذا المقال السافل صفة (مُهرِّج) دونها، لأن المثقفين والمفكرين والمؤرخين لا يتسفلون على النحو الذي اتبعه عبد الله علي إبراهيم، ومن عجبٍ أنه مارس الوصاية نفسها والسفاهة ذاتها مع أحد أبرز أيقونات الثورة، مزيداً على الأخ خالد سلك، لمجرد أنه نادى بالمحافظة على حقوق المتهمين، ويبدو أن صاحبنا أصيب بلوثة نضالية متأخرة، يريد أن يسدد بها فواتير تماهيه مع الإنقاذ بمزايدة رخيصة ومقززة، لذلك نقول له دع الثورة لا ترحل لبغيتها، فقد فاتك قطار نضال لم تمارسه في وقته الصحيح، ولو أن مُشرِّعي الفترة الانتقالية أقروا القانون الذي اقترحه الراحل المقيم علي محمود حسنين رحمه الله، وقضى بمعاقبة وسجن كل من دعموا سلطة الإنقاذ ورسخوا انقلابها على السلطة الشرعية في بداياتها لربما وجد عبد الله علي إبراهيم نفسه محبوساً في الحراسة ذاتها التي أقام فيها الشريف عمر بدر، ولربما استغرق حبسه أكثر من عام، انتظاراً لحصر مشاركاته التافهة في مؤتمر الحوار الوطني الذي عقدته الإنقاذ في قاعة الصداقة عام 1989، وكان عبد الله علي إبراهيم من أبرز المشاركين فيه، مثلما ظل من المتصالحين معها، المتقلبين في نعيمها، المستفيدين من عطاياها، (كطباعة كتبه في دار الخرطوم للثقافة)، بإشراف الزميل الطاهر حسن التوم، وبتوجيهٍ مباشر من علي عثمان محمد طه، وقد ذكر لنا الطاهر أن علي عثمان كان يكن لعبد الله علي إبراهيم مودةً خاصة، ويحيطه بعنايةٍ فائقةٍ، إلى درجة أنه وجه كمال علي عبيد باستيعابه محاضراً في جامعة إفريقيا العالمية، بعقدٍ يسيل له اللعاب.
عندما كان صاحبنا يتبضع من فضلات الإنقاذ، ويتزوَّد من قاذوراتها، ويعينها على ترسيخ مشروعها الإقصائي، ويشارك في مؤتمراتها التأسيسية، ويصاحب رئيسها في بعض رحلاته الخارجية، ويكتب في صحيفة الإنقاذ الوطني، كان جُل رفاقه القدامى من قادة الحزب الشيوعي يقبعون في المعتقلات، يعانون مرارة الذُل والإهانة، ويعذبون في بيوت الأشباح، والموجع أن صاحبنا (المهرج صاحب النضالات المتأخرة) فعل ذلك في وقتٍ كان فيه المعتقلون يعاقبون بدق المسامير في الرؤوس، ، ويعدم بعضهم شنقاً لامتلاك حفنة دولارات.. لذلك لم أستغرب ما كتبه عنه الدكتور منصور خالد، ولا ما رماه به الخاتم عدلان رحمة الله عليهما، وهما أعلم بوقاحة طرحه وسفالة مواقفه وبؤس نفسه مني.
نواصل
صحيفة اليوم التالي