أخي حمدوك …أُصدِقك القول بأن الشعب السوداني من أقصى اليمين لأقصى اليسار كان له أمل وثّاب وأمنيات مرفرفة في حكومتك التي ظنها سوف تفتح الآفاق باتفاق وطني عريض، وعلاقات خارجية مثمرة، وخطة اقتصادية طموحة، وبرنامج عمل يستوعب كل طاقات شبابنا، ولكن للأسف مات الحلم وتلاشى الأمل وتمدد الجثمان الطاهر على الممشى العريض.وقد عجزت ملايين الأيدي أن ترتفع بالفاتحة وأخفقتَ أنت الطبيب المداويا في إشهار الخبر الفاجع مع أنك تعلم وأنت إبن الريف أن إكرام الميت التعجيل بدفنه.وقد حكى لي أحد أقاربنا وكان يعمل مساعد طبي بإحدى قرى الجزيرة، حين كان للحكيم “شنة ورنة” مثلما كان للمعلم (الشيخ) رفعة وتجلة.حملوا له ذات مساء بالشفخانة شاب في العشرينات من عمره عليه وضاءة وعنفوان، وكان مرشح ليكون (شيخ خط ) وزعيم لقبيلته بعد أن طعن والده في السن وأقعده المرض. كان باختصار أمل عشيرته ومستقبلها.وضعوهوا برفق أمامي في الطاولة، وكان يرتجف من الحمى ويتصبب عرقا، وقد عرفت بحكم تجربتى أنها الملاريا الخبيثة. حقنته بالكينيين وربطت جبينه بالمكمدات الباردة، ولكن يا للحسرة اسلم الفتى المرتجى الروح في هدوء وسكينة فسكن كأنه نائم.صدمتني الحالة وعجزت، بل خفت أن أكاشف أهله بالخبر الفاجعة. كنت أحدق عبر النافذة فأرى أن الفضاء قد امتلأ بعشيرته وجموع قبيلته من النساء والرجال فازددت خوفا وقلقا من إخبارهم، فأعود بخطوات منكسرة وأنا أضع السماعة على قلبه في مشهد تمثيلي غير ناجح، خاصة وأنني أعرف النتيجة مسبقا.مرت ساعة وساعتين وثلاثة وانتصف الليل وأصاب القلق الجميع، فاقتحم علي الغرفة إبن عمه الفتى وإمام المسجد قائلا بلغة قاطعة:( نحن يا الشريف ناس مؤمنيين، كان الله أخد أمانته، الموت لا فيه شماتة ولا فيه عيب ولا خوف )هنا فقط احسست بالاطمئنان فقلت بلغة مترددة مابين القلق والضراعة:( مادام قلت كِدا : الفاتحة ) عزيزي حمدوك إن الحكومة الانتقالية إبنة الانتفاضة التي قضت عليها ملاريا المحاصصة قد ماتت، ونحن وأنت قوم مؤمنون نعرف الموت الذي لا شماتة فيه ولا عيب ولا خوف: الفاتحة