قلنا في مقالنا السابق، أن من أكبر بواعث القلق المتمكن من ثوار ومن أرواح شهداء ثورة ديسمبر/كانون الأول العظيمة، هو *أن الفترة الانتقالية لا تزال عرجاء، تتعثر خطواتها حتى تكاد، أو كادت، أن تسقط، ومنذ فترة،* لولا أن جذوة الثورة لاتزال متقدة في جماهير الشعب السوداني، ولولا وقوف شباب لجان المقاومة بالمرصاد تجاه كل من تسول له أوهامه الانقضاض على أحلامهم وسد نافذة الأمل التي أشرعوها بعزيمتهم وقوة إرادتهم، *ولولا جائحة الكورونا، والتي إضافة إلى دورها الفتّاك والمدمّر، تلعب الآن دور الساتر والمثبّط المؤقت، الذي يؤجل، ولا يمنع، التداعيات المخيفة للأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة في سودان ما بعد الثورة.*
إن العنف الدموي المتصاعد يوميا في البلاد، والذي يتخذ وقودا فعّالا من الاحتكاكات القبلية، المفتعلة أو المتواجدة منذ عشرات السنين، والذي يتبدى أيضا في الأحداث الدامية، الفردية والمتفرقة هنا وهناك، وآخرها ما حدث بالأمس عند نقطة ارتكاز في أحد أحياء العاصمة، والذي يتجلى كذلك في العنف غير المسلح والعنف اللفظي، وكلاهما أصبحا ممارسة يومية وسمة ثابتة للاختلاف السياسي، هذا العنف، دموي أو غير مسلح أو لفظي أو إشاعة كاذبة أو رد فعل غبي عليها، هو جزء من مخطط مرسوم لجر البلاد إلى أتون حرب مجتمعية على غرار الحريق المستعر في ليبيا وسوريا واليمن.
وهذا المخطط، هو تكتيك أصيل في نهج بؤساء تحالف الفساد والاستبداد لاستعادة دولتهم، ولو على جثث وأشلاء الوطن. وللأسف، يؤدي هذا المخطط فعله بسلاسة، في ظل عدد من العوامل التي توفر له الأجواء الملائمة، ومنها عجز السلطة الانتقالية عن التصدي لأعداء الثورة، بما في ذلك عدم تقديم الموقوفين إلى المحاكمة، وهم رهن الاعتقال لأكثر من عام. وبالمناسبة، نحن نرفض تماما سياسة الاعتقال دون محاكمات، بل ونرفض أي قانون يبيحه. ومن أشكال هذا العجز أيضا، السماح بتداول قصص عن تواطؤ هذا القطاع أو ذاك مع أعداء الثورة، الشرطة مثلا، دون خطاب رسمي ينفي أو يؤكد، وما يتبع ذلك من إجراءات. إن هذا العجز، وبمختلف أشكاله، لن يمر أبدا دون عقاب من محكمة الشعب.
أيضا، من العوامل الأخرى التي توفر أجواء ملائمة لمخططات أعداء الثورة، حالة التشرذم والعجز البائن، والمخجل، وسط قوى الحرية والتغيير ووسط تجمع المهنيين، والذي أقعدهما تماما عن أن يستمرا كحاضنة سياسية وجماهيرية للحكومة الانتقالية، وأن يطلعا بمهامهما في حماية الفترة الانتقالية، وتركا العبء المنظم كله ليقع على عاتق لجان المقاومة. أيضا، عجز الإعلام عن القيام بدوره المنوط في التوعية والتعبئة، وكذلك ركون عدد من كتاب الثورة إلى الاكتفاء بقصص السيناريوهات والحبكات البوليسية، والتي تستند على معلومات غير صحيحة أو غير دقيقة، وجلّها مزروع في مزارع الأوهام، تدخل في زمرة العوامل الموفرة للأجواء الملائمة لهذا المخطط.
نحتاج إلى مخرج ناجع وآمن، للتصدي إلى هذا الوضع الخطير، والذي يزداد خطورة بهذا العجز المتمكن، ولحماية ثورتنا العظيمة. فسلاح الجذوة المتقدة ولجان المقاومة، رغم فاعليته ودوره الأساسي، لن يستطيع وحده مواصلة المعركة، والتي تتطلب أكثر من سلاح وعدة أنواع من الذخائر. ومباشرة نقترح الإسراع بعقد لقاء مائدة مستديرة، والاستدارة هنا نقصد بها الجوهر وليس الشكل، للتوافق حول كيفية تنفيذ، وأكرر تنفيذ وليس مجرد بحث، إنقاذ الوضع ومقاومة محاولات تدمير الفترة الانتقالية. ومباشرة أيضا، أقترح أن تكون الجهة الداعية والمنظمة لهذا اللقاء، مبادرة أساتذة جامعة الخرطوم ورئيس الوزراء د. عبدالله حمدوك. فمبادرة جامعة الخرطوم ظلت تلعب دورا وطنيا، قبل انتصار الثورة وحتى الآن، بعيدا عن الحزبية والعصبية الضيقة، وبسبب ذلك لا تزال متماسكة وممانعة ضد هجمات التصدع والشقاق التي وجدت نجاحا في أجسام أخرى هشة التكوين. ود. عبد الله حمدوك لايزال يحظى بإجماع يؤهله لهذا الدور، وأدوار أخرى كثيرة لصالح الوطن إن هو أحسن استثمار هذا الإجماع.
أما القوى التي تشارك في هذا اللقاء فأقترح أن تكون: قوى الحرية والتغيير، القوى السياسية المؤمنة بالثورة من خارج قوى الحرية والتغيير، تنظيمات تجمع المهنيين، لجان المقاومة، التنظيمات المدنية، القوات المسلحة السودانية، قوات الدعم السريع، قوات الشرطة، جهاز المخابرات، أي شخصيات وتنظيمات أخرى منحازة للثورة، وغير ذلك من المكونات التي يمكن التوافق عليها.
صحيح أن الأوضاع الراهنة في البلاد، قد تصيب البعض بالإحباط واليأس من أن يتجسد حلم الثورة واقعا، وخاصة الذين ظلوا طويلا في انتظار الثورة والتغيير، أو ظنوا أن قطف ثمارهما سيكون صباح الغد. وأعتقد أن حالات الإحباط واليأس المؤقتة، أو التي تصيبنا في لحظة معينة وزمان محدد، أعتقد أنها مفهومة ومقدّرة ما دمنا لم نسقط المبدأ. ولكن، أن يتملكنا الإحباط مطلقا، فهذه «حارّة»، وهي في النهاية، حلم ومنى الطغاة. لذلك، أعتقد من الضروري جدا أن يتربع على رأس أولوياتنا كيفية دحر الإحباط واستثارة الحماس، لأن حماس الناس، المنظم والواعي، قادر على قلب الموازين في اللحظات التاريخية الحاسمة. منافسات كأس العالم، أو كأس أوروبا أو إفريقيا، في كرة القدم، تذهلنا جميعا بقدرتها على حشد الملايين من كل بلد، وتفجير حماسهم وتفاعلهم مع هذه المنافسات إلى حد الهوس. ونحن في الدفاع عن ثورتنا أحوج ما نكون إلى مثل هذا الحماس وهذا التفاعل، لا حماس فرحة الانتصارات فحسب، بل وحتى دموع الهزائم المؤقتة، لهزيمة اللامبالاة، ولرفع رايات الأمل وشحذ إرادة التغيير. فالأزمة في بلادنا بلغت الحلقوم، ولم نعد على شفا حفرة من نار، بل نقترب من مستقرها….، ولا بديل أمامنا سوى أن نطلق حماسنا ونبث الأمل من أجل الانتصار النهائي لثورتنا، ومن أجل دحر كل محاولات استرجاع تحالف الفساد والاستبداد.