عندما رحل والدي كنت في العاشرة وكانت والدتي دون الثلاثين بعام، ترك لنا محلا صغيرا بسوق السجانة كان يبيع فيه اسبيرات الأجهزة المنزلية ويقوم باصلاحها. كان عليه الرحمة رغم ضيق رزقه واسع الثقافة وبالغ الدقة علمني أن أقرأ له الكتب والصحف منذ الثامنة وتعهدني بالمعرفة والاطلاع. كان بسيطا زاهدا في كل شئ وكان عليه الرحمة لا يحب أن يكلف الناس واجبا ولا يطلب منهم حاجة، حتى عندما رحل صلى الفجر واتكأ على فروته مسبحا، وعندما جاءته الوالدة بشاي الصباح وجدته قد فارق الحياة وعلى وجهه ابتسامة رضا عريضة.
كان ميراثه بيتا شعبيا ودكان صغير عشنا على ايجاره، ومكتبة كبيرة كنت اتعجب كيف جمعها وكيف انتقاها. تقدم الكثيرون للاقتران بوالدتي وكانت ذات ملاحة لا تخطئها العين، ولكنها كانت ترد الأقرباء والغرباء بمقولة قاطعة: (ليس هنالك رجل يمكن أن يحل محل الراحل، وأنا قد ارتضيت بإبني هذا ارعاه وأرعى أطفاله إن أمد الله في عمري) وتعقِبها بأدمع حرى اشتهرت بها، وانقطع بعدها أهل القرب والطلب. تعهدتني من بعده بالتربية والاهتمام حتى دخلت الجامعة. وكان لي خال فى المهجر لا ينقطع من ارسال ما نحتاجه، حتى ظنني أبناء دفعتي أنني من أبناء الميسورين والأثرياء.
دخلت الجامعة بتفوق، كنت فصيحا ومزهوا بثقافتي التي جعلت أحد التنظيمات (الفوضوية) تلتقطني لأصبح أحد كوادرها البارعة في الاستقطاب والتجنيد، وصرت لاحقا صوتها الأشهر في أركان النقاش أو بالأحرى حلقومها.
ثلاثة مواقف قلبت تجربتي رأسا على عقب، كنت يوما أدير نقاشا حول برنامج حزبنا الانتخابي فرفع أحد الطلاب المهذبين اصبعه وطلب الفرصة، وصحح لي معلومة تاريخية ذكرتها أثناء المناقشة ودون أن اتحقق من تصحيح الزميل قمت على طريقة اللجاج والمراء بالتنمر عليه. فغادر ركن النقاش حزينا ورأيت العتاب على وجوه العشرات.
أما الموقف الثاني فقد كان من زميلة دراسة قابلتني قرب شجرة من النشاط وقالت لي هامسة: (عليك أن تعلم يا فلان أن الحكمة أن تدخل قلوب الآخرين بالرفق لا بالصراخ ) قالتها وانصرفت في هدوء.
أما الموقف الثالث فقد كان من الوالدة حضرت للمنزل في ذلك اليوم نهارا على غير عادتي وعندما طرقت الباب وجدتها تحمل طبقا، وقالت لي بلغتها المتواضعة التقية: (ود حلال إذهب بهذا الطبق للحاجة مريم زوجة الخفير بالبناية المجاورة ولا تجرحها باعتبار أنها صدقة، ولكن قل لها إن الوالدة قد أعجبها هذا الطبخ وأحبت أن تشاركيها أنتِ والعيال في المذاق)
قلت لها ضاحكا : (هذه يطلق عليها أهل الصلاح المعاصر عبارة الصدقة الأنيقة ) وعندما رجعت بعد المشوار الشفيف من حاجة مريم قلت للوالدة: (اذا اطلقتي حملة لحزب جديد تتزعمينه فسوف أقدم لك بطاقة الالتحاق الأولى) ضحكت حتى امتلات أعينها بالدموع وقلت لها: (والله إني أعني ما أقول، فإن المعرفة التي تملكين والقلب الكبير الذي لايملكون يؤهلك للامارة والوزارة)
ذهبت في اليوم الثاني للجامعة واعتزرت للرفاق عن ركن النقاش، وفي اليوم الذي يليه قلت للمسؤول التنظيمي: (أرجو أن تقبلوا استقالتي وتيقنوا أن أسراركم ستموت معي إلى الأبد) وناولته حزمة من الأوراق التنظيمية وبعض الأسرار والشفرات
وفي اليوم الثالث وبعد المحاضرة الأخيرة اسرعت صوب مسجد البركس فقد تخيلت أن صوت الاذآن الصادح كان يدعوني وحدي للصلاة. وبدأت حملة اغتيال الشخصية تنتاشني من أصحاب الأكتاف الباردة من الزملاء المدربين على مثل هذه الأعمال الاجرامية.
صدمتني رفيقة صفيقة بلغة متهجمة: قيل إنك انضممت للأخوان
قلت لها: بل أنني انتميت للانسان
وفي أقل من اسبوع فقدت خمسين من الصارخين، واكتسبت ألف من العارفين.
هرعت إلى منزلنا الصغير فوجدت والدتي في انتظاري احتضنتها في شوق كأننا غبنا عن بعضنا أعواما، بكيت على كتفها طويلا حتى بللت دموعي كتفها وتدفقت على التراب.
قالت لي بلغة صوفية: أراك اليوم شفيفا وخفيفا
فقلت لها: لأنني ألقيت عن كاهلي الكثير من أثقال الماضي، ودخلنا في جلسة عتاب ومدارسة طويلة وهي تساندني على الطريق الجديد.
كنت يومها أرى أنه ليس في الدنيا إلا أنا وهي وكان الله ثالثنا