حوار مع د. الشفيع خضر..عادل الباز
فيما ارى
الثورة في مهب الريح لماذا؟
١
خمس مقالات حفلت بها الصحف الورقية والإلكترونية خلال الأسبوع الماضي تستحق التوقف عندها ومناقشة ماطرحته من الأفكار ، ولكن لأن الساحة السياسية لا تحتفي بالأفكار ومشغولة دائماً بالتفاهات وتصفية الحسابات و “البل” فلا أحد يناقش الأفكار أو يلقي ضوءا عليها علها تصل إلى غاياتها .. المقالات الخمس التي توقفتُ عندها خلال أسبوع الأول منها كتبه د. التجاني عبد القادر (تشريح الثورة قراءة في مسارات الثورة السودانية ومآلاتها ) والثاني كتبه د. عبد الوهاب الأفندي (في نعي الديمقراطية السودانية) والثالث للنور حمد ( الشرعية الثورية والشرعية الدستورية) والرابع مقال للأستاذ عبيد مروح ( أعيدونا لميدان الاعتصام ) والخامس للدكتور الشفيع خضر ( إنقلاب عسكري في السودان) ..
ساخصص زواية اليوم لمناقشة مقال د. الشفيع خضر ( إنقلاب عسكري في السودان) لأنه أطلق دعوة ملحة ينبغي أن تُسمع ، والأمل متابعة الأفكار التي طرحتها في بقية المقالات.
٢
يقول د.الشفيع خضر في مقاله المذكور أعلاه والذي نشر بـ القدس العربي اللندنية ( آن الأوان أن نرتقي إلى مستوى ومصاف وروح ثورة ديسمبر، وأن نقتنع بأن خطراً داهماً يتهددنا جميعاً ويجعل الوطن كله في مهب الريح ، وأن ما يجمعنا ، في الحد الأدنى الضروري للحياة ، أقوى مما يفرقنا، وأنه آن الأوان لكيما نلتقي بجدية وإخلاص لصياغة واقع جديد في السودان، فتحت أبوابَه ثورتُنا المجيدة، واقع يحقق أحلامنا جميعاً في كسر الحلقة الشريرة واستدامة الحرية والديمقراطية والسلام والعدالة، إنصافاً لشعبنا الذي ظل صابراً لعقود من الزمن ولم يحصد سوى الريح.) .
أول سؤال طاف بذهني وأنا أقرأ هذه العبارات الملحاحة ؛ ياترى لمن أُطلق هذا النداء الحميم والمشفق على مصائر الوطن ؟
وقع في ذهني أنه نداء مخصوص لقوي الحرية والتغيير لأنهم أهل الشوكة الذين بيدهم استدامة الديمقراطية والحرية وهم قادة الثورة ؛ والآخرون مطرودون من جنتها ، ولاصوت لهم في مصائر وطنهم الآن !!
٣
بالتأكيد إن هذا ليس هو النداء الأول للدكتور الشفيع خضر ولن يكون الأخير ؛ فلماذا دائماً تقع نداءاتُه في آذان صماء؟.. لابد أن يكون هناك خللا ما، فإما أن قادة السلطة الجديدة في تحالف قوي الحرية والتغيير تلبستهم أوهام السلطة الغشاشة فلم يعودوا يأبهون لنداء ولا يستمعون لنصح، وإما أن تكون هنالك إشكالات تتعلق بالنداء نفسه .. في اعتقادي أن كلا السببين هما وراء نداءات د. الشفيع المتكررة بلا مجيب !
٤
تاريخياً معلوم إن الصراع العبثي داخل الكيانات الحزبية والانظمة السياسية متي ماتلبس بأوهام القوة عصف بها. قادت الصراعات العبثية داخل الحزب الشيوعي التي تلبست بأوهام القوة الجماهيرية التي كان يظن أنه يتكئ عليها، قادته لارتكاب حماقته الباكرة للتآمر والانقلاب علي الديمقراطية ثم سارع بارتكاب حماقة أخرى في يوليو ٧١ لأنه ظن أن جماهيره وقوة حلفائه في الجيش من شأنها أن تسمح له بالسيطرة الكاملة على السلطة المجدوعة في الشارع (وحلال على بلابله الدوح حرام على الطير من كل جنس). وكان ذلك وهماً ؛ فانتهي الحزب إلي ما انتهي إليه.
٥
الإسلاميون الذين لم يتعلموا من تجربة الحزب الشيوعي شيئاً سارعوا لارتكاب ذات الحماقة فانقلبوا علي النظام الديمقراطي (٨٩) وكانوا هم ضلعه الثالث والمؤثر في معادلات السلطة مستندين على أوهام القوة الجماهيرية والمالية التى بنوها خلال السبعينات الثماننيات خلال تغلغلهم فى مفاصلةالسلطة المايوية. نجحت مغامرتهم بأكثر مما نجح الحزب الشيوعي وتمكنوا من السلطة ثلاثين عاما. ولكن سرعان ما أصابهم الداء القديم، داء الصراع العبثي ثم تلبستهم أوهام القوة ، فصموا آذانهم عن سماع أي نداء للإصلاح رغم تواصل نداءات المصلحين والناصحين لعقدين من الزمان؛ وبحت أصوات المنذرين بسوء المآل .. لم يستمع أحد لنقد الافندي الباكر لممارسات القمع والفساد ولم ينتبه أحد لمقالات التجاني عبد القادر حول فساد قطاعات من الرأسمالية الإسلامية ولا انتقادات محمد محجوب ود. خالد التجاني المتصلة لممارسات النظام غير الراشدة في حق البلاد والعباد ، ولا للمحبوب عبد السلام في خيوط الظلام ؛ وكانت النتيجة عزل الإصلاحيين ومطاردتهم وتشويه سمعتهم .. توهم قادة الإنقاذ أنهم سيسلمونها للمسيح وهيهات ، فسرعان مادبت الصراعات في أروقة الحزب وكل صراع يلد صراعات جديدة ومتفجرة. بعد أن أطاحت الصراعات بشيخ الحركة وأمين الحزب الترابي عادت لتتجدد بين العسكريين والمدنيين ثم ظهر صراع الشيخين (علي ونافع) ومن ثم أصبح الحزب موبوء بصراعات متعددة (رجال أعمال ،جهويات ، وشباب ، عسكريين ومدنيين ) ثم بدأ الحزب يتشقق والأرض من تحته تميد ، في تلك اللحظات خرج من بينهم ناصح أمين كأمين حسن عمر ولم يسمعه أحد وكانوا فيه من الزاهدين فحكى لهم قصة (حمير أنطاكية) ولكنهم أيضاً مافهموا فلم يلبثوا إلا قليلا حتي زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت أثقالها فقالوا مالها….. فانتهوا إلى ما انتهوا إليه . وهكذا كانت مصائر كل الذين وقعوا في فخ الصراعات العبثية و تلبستهم أوهام القوة والسلطة.
٦
حين يلح د.الشفيع الان في النداء ويقول آن الأوان للارتقاء لمستوى الثورة ورؤية المخاطر المحدقة التي يمكن أن تجعلها في مهب الريح حتي لاتتكرر الدائرة الخبيثة، حين يقول رجل ومفكر و أحد قياديي الثورة وهو قريب من دهاليز السلطة حالياً ، رجل بهذه المواصفات لابد من الإنصات إليه باهتمام وجدية ، إذ لابد أنه أدرك أن الداء القديم ، داء الصراع العبثي بداخل قوى الحرية والتغيير قد تصاعد ووصل ذروته و قد تلبس بأوهام القوة دون وهماةالجماهير ليست الا قطيع طوع بنانه يخرجها ويدخلها ويوجهها من مااراد. خشي د.الشفيع من مصائر معلومة هو خير الشاهدين عليها ويكاد الآن يرى مآلات مسرح العبث الذي يعرض أمامه. ومن آيات ماحذر منه د.الشفيع البيان الذي خرج به حزب الأمة امس معلنا تجميد عضويته في تحالف قوى الحرية والتغيير، ليظهر المستوي الذي وصلت اليه تداعيات الصراع الداخلي بهذا التحالف الذى كأنه يخوض الآن حرباً أهلية داخلية وصراعات متعددة الاتجاهات والرؤى والقضايا.. انظر إلي الصراعات التي تجري الآن في عوالم التمكين الجديد في المناصب والوزارات والولايات؛ انظر للصراعات والتنازع حول قضية السلام ؛ انظر كيف تعطلت ميزانية البلاد بفضل صراعات الرؤى حول مسارات الاقتصاد ، انظر لتحيزات قوى الحرية والتغيير وسياساتها تجاه المنظومة العسكرية ؛ فبعضهم مع تفكيك قوات الدعم السريع وآخرين دخلوا خيمتها طائعين ويكادوا يسلمونها قيادة البلاد .بعضهم مع الجيش وآخرين مع تصفيته أو إعادة هيكلته… كل يغرد علي هواه ، فللدقير غصن يغرد فيه منفرداً وشباب الثورة في الأسافير علي أغصان يائسة يغردون ؛ لايكاد يُسمع صوتهم ، وللصادق المهدي خطب طويلة ومواثيق ومقترحات آخرها ما صدر بالأمس من تجميد لنشاط الحزب لأسبوعين أما تُلبي طلباته أو أن يفارق الحرية والتغيير بغير إحسان ، ولا أظن أن اليسار سيرضخ لأوامر السيد الإمام .أما الحزب الشيوعي فلدية سيل من البيانات التي يغرد فيها بصورة منفردة ، فهو ضد المليشيات وضد جهاز المخابرات العامة وضد خطة البدوي الاقتصادية وضد التحالف مع الإمارات والسعودية ؛ باختصار هو ضد أغلب سياسيات الحكومة وهو ضد الضد نفسه .. هذا تحالف موبوء بالصراعات العبثية !!
٧
ينظر د.الشفيع فيرى أن أوهام القوة تلبست قوي الحرية والتغيير …..وتحولت السلطة والقوة ليس أداة لاستدامة وترسيخ الحرية والديمقراطية بل لتصفيات انتقامية لقمع المعارضين والتنكيل والتشهير بهم ، وتحولت النيابات إلى أجهزة قمعية ظن الناس أن عهدها ولىّ ، فهي تعتقل من تشاء متى ماتشاء إلى أي وقت تشاء، ولا معقب لقراراتها ، فليس هناك قانون ولا يحزنون ..هذه مآلات الحرية، أما العدالة فحدث ولا حرج.يكفيك فقط أن تتفرج علي ما تقوم به لجنة سياسية أسمت نفسها لجنة التفكيك وازالة نظام الإنقاذ وصنعت لها قانوناً لم يشهد له التاريخ مثيلاً في إهداره للعدالة .. اللجنة هي من تحقق وهي من تصدر أحكامها وهي من تنفذها وليس لشخص حق سوي الصراخ ( سيصرخون .. أو كما قال صديقنا ود الفكي.).الحقيقة أن الصراخ حق ديمقراطي وليس منحة رئاسية .. هكذا هي فتنة القوة والسلطة توهمك أن بإمكانك فعل أي شئ بقانون أو بدون قانون طالما إنك تصفي الحسابات مع خصومك السياسيين !!
تصاعدت أصوات الناصحين أهل الثورة المخلصين ( الحاج وراق ، الواثق كمير ، نبيل أديب ، النور حمد، محمد فاروق، وداعة والدقير، عثمان ميرغني.) ولا أحد يستمع ، يكررون نفس مأساة الإسلاميين …. ياترى كيف ستكون المصائر…. لله الأمر من قبل ومن بعد.
٨
هناك أشكال يتعلق بنداء د. الشفيع نفسه فهو غامض كأن صاحبه يريده رسالة مشفرة لمن يهمه الأمر ولكن ليس ذلك مهماً ،المهم أن مَن يطلق ذلك النداء ليس هو كاتب صحفي مثلنا ، إنما هو قائد متنفذ في السلطة الحاكمة بتلاميذه وعضويته المتغلغلين في مفاصلها ، فالمطلوب من أمثال د.الشفيع كقائد سياسي أكثر من إطلاق الأفكار، هو قيادة المبادرات السياسية الخلّاقة في الساحة السياسية وتخليق واقع جديد مشتهى يشبه آمال وطموحات الثورة. طرح د. الشفيع من قبل أفكارا حول المساومة التاريخية بين اليسار واليمين لاستقرار البلاد ولكن ظلت تلك أفكار لم تتقدم ولا شبر لأنها بلا ساقين ولا مبادرة تحملها والمؤسف أنه سرعان ما تراجع عنها في أعقاب هيجان الأسافير ضدها .. ليس مقبولاً من قائد سياسي التراجع عن أفكاره استجابة لأهواء مغردي الاسافير.