صلّبت يا دكتور الأرقام.. بفتح الصاد وتشديد اللام!..حسين خوجلي
كان يعمل معنا سائقاً بصحيفة الوان ايام الزمن الجميل.وقد كان يهتم جداً بمظهره وعطره وحذائه اللامع وابتسامته الرحيبة. كنت اقول له ممازحاً (ات يا اسحاق ماهيتك دي كلها تسويها عطر و دلاقين ونعلات ؟) كان يضحك بطريقته المميزة ويقول لي (ان الملابس يا استاذ يجب ان تشابه المهنة)
ولأنه كان من خريجي الثانويات الذين عبس لهم الحظ وقد اخرجت له بطاقة علاقات عامة وقلت له ساخراً (مافي في الدنيا دي مهنة سواق كل الناس اصبحوا سواقين) فكان يرد ضاحكاً (لكن سواقه لي سواقه تفرق يا استاذ)
واذكر انه حين تم ايقاف (ألوان) سلمني سيارة الصحيفة فكانت لدهشتي كالجديدة لقد كان يحرص على نظافتها وابدال اسبيراتها واكسسواراتها حتى من راتبه الضئيل الخاص.
انقطعت بيننا الصلة لتباعد الخطى في هذه (الزايلة ام بناياً قش)، وبعد ان غادرنا علمت انه اشترى سيارة امجاد فصارت مورده في سبل كسب العيش بعد ان تزوج بفتاة ودود ولود ليس في ثقافتها حبوب منع الحمل ملأت عليه (سدر البيت) طفلات كالازاهير.
زارني قبل ايام وبالكاد عرفته، قلت له (مالك بقيت مشلهت كده يا اسحاق بعد ان فارقتنا او كما تقول صاحبة ابي فراس: لقد ازرى بك الدهر بعدنا فقلت معاذ الله بل انت لا الدهر.. ) فقال لي بلهجة كسيرة (ليس كذلك ولكنني اتيت من اخر الدنيا بالمواصلات واجارك الله من المواصلات هذه الايام)، قلت له اين الامجاد؟ فرد قائلا كنت احرص دائما على تغيير الزيت في مواعيده تماما فالزيت كما تعلم روح الماكينة اما الاسبيرات فقد كنت (اجازفها) من محلات المستعمل وقدامى اهل الصيانة والميكانيكا فلما اشتدت وطأة الخبز والوقود والغاز والايجارات ومصاريف البيت ومصاريف الاولاد والمدارس والامراض الطارئة توقفت عن شراء الاسبيرات ودخلت في دوامة تأجيل تغيير الزيوت بعد ارتفاع اسعارها الجنوني الى ان اتى اليوم الفاجع. هنا صمت اسحاق وسالت منه دمعة قطعت قلبي وقلبه قلت له ماذا حدث فقال لي وقد مسح الدمعة باقصى كم قميصه الاغبر (صلّبت يا استاذ)
صمتنا سوياً لدقائق وادخلته المكتب واصبحت اسري عنه مواسياً بحق الصحبة القديم وقلت في نفسي ترى هل هذه مأساة اغبش ام مأساة وطن .
عزيزي وزير المالية: بقليل من التنقيح والترتيب يمكن ان تكون هذه الحكاية المؤلمة ورقة في المؤتمر الإقتصادي المستحيل القادم الذي يتصدره اصحاب الياقات البيضاء الذين حلوا كل معضلاتهم وامتيازاتهم الشخصية والعائلية منذ الاستقلال الى اليوم ولكنهم للاسف لم يجدوا لنكباتنا حلولا، لي رجاء صحفي اخير على طريقة فن العناوين يتصدر ورقة الجانقو والجانقي واهل العوض وملح الأرض في المؤتمر القادم الذي لن يعقد ابدا وان عقد فلن يفيد كالسالفات.. (صلّبت يا دكتور)