وزير الرعاية الاجتماعية بالخرطوم صديق فريني في حوار: كنا نفقد 14 طفلًا من فاقدي السند يوميًا بسبب الحرب

حوار: محمد جمال قندول

ربما وضعتهم الأقدار في قلب النيران، أو جعلتهم يبتعدون عنها بأجسادهم بعد اندلاع الحرب، ولكنّ قلوبهم وعقولهم ظلت معلقةً بالوطن ومسار المعركة الميدانية، يقاتلون أو يفكرون ويخططون ويبدعون مساندين للقوات المسلحة.

ووسط كل هذا اللهيب والدمار والمصير المجهول لبلاد أحرقها التآمر، التقيتهم بمرارات الحزن والوجع والقلق على وطن يخافون أن يضيع.

ثقتي في أُسطورة الإنسان السوداني الذي واجه الظروف في أعتى درجات قسوتها جعلني استمع لحكاياتهم مع يوميات الحرب وطريقة تعاملهم مع تفاصيل اندلاعها منذ البداية، حيث كان التداعي معهم في هذه المساحة التي تتفقد أحوال نجوم في “السياسة، والفن، والأدب والرياضة”، فكانت حصيلةً من الاعترافات بين الأمل والرجاء ومحاولات الإبحار في دروبٍ ومساراتٍ جديدة.

وضيف مساحتنا لهذا اليوم هو مدير عام الرعاية الاجتماعية بولاية الخرطوم صديق فريني الوزير المكلف، فإلى مضابط إفاداته:

 

أول يوم الحرب أين كنت؟

 

قبل الاشتباك بـ10 دقائق في المدينة الاجتماعية، كنت أتناقش مع قوة للميليشيا شرق المدينة الرياضية، ليسمحوا لنا بالتواصل مع 57 من أطفال المدينة من فاقدي “الرعاية الوالدية” لأنّ متعهد الطعام مُنع من الدخول إليهم، وقالوا لي لن نسمح لأحدٍ بالدخول لكن من الممكن أن يتم ترحيلهم من الدار إلى أي موقعٍ آخر.

 

ثم ماذا بعد ذلك؟

 

حين وصلت إلى شارع النيل اتصل بي مدير المدينة الاجتماعية وقال لي إنّ الاشتباك قد بدأ بداخل “المدينة الاجتماعية” بين قوة من الجيش مكونة من 17 تاتشر كانت بالجانب الشرقي للمدينة وقوات الميليشيا التي كانت تحاصر المنطقة كلها، واتصلت بالوالي لأخطره بالخبر فلم يرد فذهبت إلى منزله بجوار مسجد القوات المسلحة غرب برج “الدعم السريع” وهناك شاهدت بأم عيني خروج تاتشرات ميليشيا الدعم السريع بواقع تاتشر كل 5 دقائق وهم يصرخون ومتجهين إلى القيادة العامة، هنا انسحب طاقم مكتب الوالي وعربة التشريفة وشخصي-كنا أمام منزله- إلى أمانة الحكومة ومنها إلى مقر سكني بجبرة.

 

من هو أول شخص اتصلت به؟

 

والي الخرطوم أحمد حمزة.

 

صف لنا شعورك في تلك اللحظات؟

 

بحكم دراستي للنزاعات فإنّ شعوري من الوهلة الأولى كان إنّنا كدولة سنفقد الكثير بحكم أنّ النزاعات الداخلية قوتها التدميرية عاليةً جدًا، بالنظر للانتشار الواسع لقوات ميليشيات الدعم السريع في عصب الدولة (من أمام القيادة العامة ومرورًا بكبرى المك نمر والقصر الجمهوري ومجلس الوزراء انتهاءً بقاعة الصداقة وشارع الغابة) لم ألحظ في الدقائق الأولى للحرب أي وجود للقوات المسلحة في هذه المواقع إلّا قوةً من الشرطة كانت أمام حديقة القصر الجمهوري، فيما اصطفت تاتشرات الدعم السريع أمام القصر الجمهوري ومداخل “السوق الإفرنجي”. وكان السائق وهو يتبع لجهاز الأمن والمخابرات أكثر دقةً في توصيف المشهد وطلب مني سرعة (الخروج) من المنطقة.

 

ماذا فقدت في الحرب؟

 

فقدت السودان المتسامح الذي أظلّ الناس كلهم، فقدت داري ومدينتي وكل ممتلكاتي ورحلت أسرتي وبقيت مع فاقدي السند سنةً كاملة أمهد وارتب شأنهم ثم لما أمنوا مناطق النزاع واستقروا بعيدًا في أحضان “توتيل” بكسلا وحلفا الجديدة وشندي، عدتُ إلى الخرطوم التي قد فقدت بهرجها ونضارتها واكتست بالصرامة والإصرار على البقاء مهما كان الثمن، فقدنا مدنًا لكننا اكتسبنا مواطنًا يسند ظهره على جزع صلب ويثق فيه وهو القوات المسلحة والقوات المساندة المخابرات والشرطة، فقدت الكثير وتعلمت ومازلت كل يوم درسًا جديدًا في الثبات والجسارة رغم الصعاب.

 

طقوس فقدتها مع الحرب؟

 

كنا نذهب مع بعض الأصدقاء إلى حيث يطيب لنا المؤانسة ومشاهدة مباريات كرة القدم و”لمة فطور الجمعة” في الحي، كلٌ “يطلع بصينيتو والما جاهز بيسبق الجاهزين بالحضور، يفطر الغاش والماش”، فقدت مبادرات الشباب في العشرة، وفقدت تباري الخيرين في دعم الدور الإيوائية والفنانين وأهل الكوميديا وهم يرفهون عن الصغار والكبار، ربما لم يفقد مسنو الوزارة ذلك لأنهم وجدوا في شندي مجتمعًا مرفهًا بالسعادة فأحاطوا المسنين بكل جميلٍ، أما كسلا فلأنّها مدينة جادة اجتماعيًا فقد مهدت للأطفال والفتيات والفتيان الأسر البديلة بالكفالة وبالزواج أيضًا، نعم فقدتُ رجال الحي في الزاوية العتيقة والمسجد ومشوار السوق المركزي بالخرطوم، وفقدت رياضة الصباح بمضمار الساحة الخضراء، وفقدتُ “عزومة الأصحاب في ناصية الشوايات والغباشة”.. لم تمنحنا الحرب فرصة لنعرف جديد الأفلام في سينما “بونو” كأحدث دار عرض بالسودان في مصاف الدور العالمية، فقدت الأهل والمعارف بأريحية في مدن السودان المختلفة، فقدت جزءًا كبيرًا من عاداتي.

 

الحرب طالت؟

 

الحرب في بعض التعريفات هي ممارسة للسياسة لكن بأسلوب عنيف، لذلك ما لم يصل السودانيون إلى نقطة الاطمئنان بتحقيق أهدافهم وضمان البقاء كشعب عريق يستحق الحياة بكرامة فلن يمل طلب النصر الحاسم، وما يميز هذه الحرب أنّها تدار بنفسٍ واحد بلا توقف بلا هدنة رغم أنّ تكلفتها الاجتماعية والنفسية قاسيةً جدًا.

 

ما هي الفائدة التي خرج بها السودانيون من هذه المحنة؟

 

عرف السودانيون خصومهم وسقطت “ورقة التوت” التي كان يتغطّى بها العملاء تحت ألف رايةٍ وشعاراتٍ براقة.. علم السودانيون أنّ اختلاف أعراقهم وتنوع بطونهم مصدر قوة.. عرفنا شجاعتنا وقوة عزيمة جنودنا، فالواقع يحدثنا عنهم رغم الاحتشاد العالمي والإقليمي مازلنا صامدين.. لا.. بل نتقدم والحرب علمتنا أن تكاتف أبناء الوطن بالتدابير البسيطة يمكن أن يصنع من التكايا أنموذجًا اجتماعيًا فريدا للإطعام.. وعلمتنا الحرب أنّ المراكز على امتداد الوطن كانت بديلًا سودانيًا عن معسكرات النزوح في دول الجوار.. عرفتنا الحرب من هم الأشقاء ومن هم الأعداء.. عرفنا كم نحن أغنياء وكرماء، ولأننا خضنا هذه الحرب بذكاءٍ مذهل فإننا يستقر في دواخلنا خيارٌ وحيد هو الانتصار بفضل ثبات القيادة.

 

ما هي خسائر وزارتكم؟

 

خسرنا رجالًا ونساءً وأطفال.. خسرنا موظفون وموظفات.. خسرنا كل الأصول الثابتة والمنقولة إلّا النذر اليسير.. خسرنا دور الإيواء ومشروعاتنا الطموحة والصناديق.. خسرنا بالاعتداء الغاشم من الميليشيا على حرمات البيوت بالاغتصاب الكثير بحكم أنّنا كوزارة معنيين بقضايا المرأة ومازال الحصر جاريًا والخسارة الكبرى هي القروح والجروح النفسية العميقة في الأطفال والنساء.. هي أشياء لا تعوض بيسر.

 

ما هي الإجراءات الاحترازية التي قمت بها وأين كانت أسرتك؟

 

أخليتُ أسرتي في الأسبوع الخامس للحرب إلى الدندر وقبلها وبعدها لم أفارق الحي الذي أسكن فيه بجبرة جوار المدرعات، وحين اشتد القصف استودعت الوالي بأنّه إن لم يجد مني الرد بعد ذاك اليوم فليعلم بقضاء أمر الله، فأمرني أن أُغادر إلى الجزيرة لمتابعة أمر إخلاء أطفال “المايقوما” الذين كنا نفقد منهم في اليوم 14 طفلًا بالوفاة من ارتفاع درجات الحرارة وانقطاع التيار الكهربائي وتعطل المولد، حتى أنّ شباب الديم أصابهم التعب من دفن هؤلاء الأطفال الخدج، وبينما كانت القنوات الفضائية والصحف العريقة كالشرق الأوسط تتابع الأوضاع وتتصل بنا كل حين، فقد وجدنا تعاونًا كبيرًا من الوزير الاتحادي للتنمية الاجتماعية الذي مهّد لنا التواصل مع المنظمات الدولية وبعد أربعة أيام من وصولي لولاية الجزيرة تم إخلاء الأطفال إلى مدني، أما بقية الدور الإيوائية (المسنات، وأطفال المدينة، والفتيات، والفتيان) فقد كان لـ”الانصرافى”- له تحيتي- وبعض منسوبات دار المستقبل للفتيات قصب المبادرة بإخلائهم إلى مدينة الحصاحيصا، ثم بعد دخول الميليشيا لمدني سبقت الخطى إلى كسلا وبورتسودان وبجهد متكامل استقر بالجميع الحال في كسلا المضيافة وعدت بعدها للخرطوم، حيث شاع الجوع في مناطق حصار الجنجويد وكنا ومازلنا نستقبل أجسادًا متعبة من الجوع والخوف ونستضيفهم في مراكز الإيواء التي تجاوزت الـ 166 مركزًا حتى أمس الأول الخميس الموافق 2024/8 /22.

 

في لحظة من اللحظات، ألم تشعر بقرب الموت؟

 

أخرج كل يوم وفي بالي أني لن أعود إلى داري مرة أخرى، لأنّ القصف الغادر من الميليشيا لا يتوقف، وحالي كحال مواطني كرري إنّنا “باقون مهما حدث”.

 

انطباعك عن وجودكم بأم درمان كحكومة للولاية بشكل مؤقت؟

 

وجود حكومة الولاية برئاسة الوالي أحمد عثمان حمزة رسالة والتزام بواجب، ونجد أثر ذلك في نفوس الناس ومن قيادة القوات المسلحة والشرطة والأمن، نجده في همسات المارة، ودعاء المصلين بأنّ للأوطان دين مستحق كل واحد منا يؤديه قدر استطاعته.

Exit mobile version