السفير الأمريكي في القصر الرئاسي.. الاعتراف بالأمر الواقع

لم يمر اعتماد رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان أوراق السفير الامريكي الجديد جون جودفري بصورة اعتيادية، لجهة ان للأمر ارتباطات سياسية بتوازنات المشهد السياسي المتمثل في الأزمة الوطنية منذ اجراءات القائد العام للقوات المسلحة في الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي، وباعتماد البرهان أوراق جون فإن المقارعة الداخلية والتنازع بين العسكر والمكون المدني المتمثل في مركزية الحرية والتغيير قد تحول من رفض للمجتمع الدولي ما جرى في أكتوبر لاعتراف باين بالامر الواقع، وهو ما دفع مراقبين لتصنيف الحدث بتحول المجتمع الدولي من الحالة الثورية للفعل السياسي، وذلك تحصيناً للبلاد من مغبة المجهول وصولاً لتسوية سياسية تفضي الى تشكيل حكومة تسهم في إيقاف الأزمات المتمددة التي تكاد تعصف باستقرار البلاد.

تعقيدات الأوضاع

ووصل السفير الامريكي جون جودفري في خواتيم الأسبوع الماضي وذلك بعد (25) عاما غادر قبلها آخر سفير لامريكا بالسودان آنذاك، حينما كان الاخير متهماً بدعم الارهاب، ووصل جودفري الى خرطوم مختلفة عن سنوات التسعينيات، حيث يعج الآن مقرن النيلين بجملة من التناقضات والتعقيدات السياسية والاقتصادية والامنية وتحديات ماثلة للعيان، وقطعاً تولي واشنطون البلاد اهتماماً كبيراً لجهة دلالات اقتصادية واقليمية خشية اطماع روسية وصينية.

والاوضاع السياسية بالبلاد تشوبها اجواء ضبابية مشحونة بالاحتقان السياسي الذي تولد خلال السنوات الاخيرة، وتفاقمت بعد اجراءات الخامس والعشرين من اكتوبر الماضي، وفي ظل هذه المتغيرات تعاملت ادارة الرئيس الامريكي بايدن بتذبذب تجاه القضايا الشائكة بالملعب السياسي السوداني، فتارة تجدها قريبة من الاحداث مرسلة وفوداً واحياناً اخرى تظهر انشغالها بالازمة الروسية والاوكرانية بشكل باين ببعدها عن وجودها في الساحة التي تعج بالتدخلات الاقليمية في مسعى لايجاد حلول للازمة السياسية التي ولدت اوضاعاً اقتصادية صعبة وخلفت فراغاً دستورياً وتنفيذياً يمضي الى قرابة العام.

مصالح

وهناك تساؤل مهم يطوف بمخيلة الكثيرين: عن ماذا تريد واشنطون من الخرطوم في اعقاب خطوات تنفيذ الترفيع الدبلوماسي، وهو ما ربطه خبراء بأن الجانب الامريكي بدأ ينظر الى مصالحه التي لن تتحقق الا بوجود حكومة قوية وان كانت خلفيتها عسكرية على غرار الشخصيات الحالية، مع العلم بأن سياسة الديمقراطيين تعتمد لعشرات السنين على سياسة السر والعلن، فهي تفعل ما لا تريد ان تعلنه وفق سياسة متبعة تنفذ اجندة امريكية في المنطقة الافريقية، فيما اعتبر مراقبون اداء السفير الامريكي القسم بالقصر الرئاسي بمثابة انتزاع (العسكر) اعترافاً جهيراً من المجتمع الدولي بانهم الاجدر بادارة المشهد في البلاد لجهة التشاكسات التي عصفت بالقوى السياسية واظهرتها بشكل غير مسؤول.

وأعرب رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان عن ترحيبه بتعيين الولايات المتحدة الأمريكية سفيراً لها بالخرطوم بعد انقطاع دام (25) عاماً، واكد كذلك أهمية العلاقات والعمل على تطويرها، متمنياً ان يكون تعيين جون بمثابة قوة دفع جديدة لمسيرة العلاقة بين البلدين.

اعتراف دولي

استاذ العلاقات الدولية بجامعة افريقيا والخبير الاستراتيجي د. نصر الدين التيجاني يرى بحسب الانتباهة ان امريكا تولي اهمية كبرى للسودان نابعة من وضعه الجغرافي والاستراتيجي وتأثيره في دول القرن الافريقي، وذات الميزات جعلت الخرطوم تدخل ضمن الاطماع الدولية بشكل عام والروسية بصفة خاصة.

محدثي اشار الى التحسن الكبير في العلاقات بين الخرطوم وموسكو، الامر الذي افرز تمدداً روسياً كبيراً داخل البلاد في شتى المجالات خاصة الاقتصادية والاستراتيجية عبر البحر الاحمر، مما جعل الجانب الامريكي ينتبه الى ان مصالحه اضحت مهددة في المنطقة، بجانب الترتيب الافريقي الذي جعل السودان في المرتبة الاولى من واقع اهميته الاستراتيجية بجوانب امنية.

ويذهب التيجاني الى ان امريكا تريد حكومة قوية في السودان لتحقيق مصالحها وحمايتها من الصراع الدولي، بجانب موارد ضخمة للخرطوم تدخل ضمن الصراع الدولي على غرار الذهب التي تجعلها تحت اعين الدول العظمى، خاصة ان العالم مقبل على فجوة غذائية واقتصاديات جديدة، الأمر الذي يجعل ضرورة ان تترك واشنطون سياسة العصا والجزرة التي ظلت تمارسها على الخرطوم، وتتعامل وفق رؤية جديدة برزت فعلياً في تنفيذ خطوتها بالترفيع الدبلوماسي وتنفيذه على ارض الواقع بوصول السفير. ويشير محدثي الى نقطة وصفها بأنها مرتبطة بالمصالح الامريكية مباشرة، وهي تطوير العلاقات في مجال مكافحة الارهاب التي كانت من اهم مرتكزات انفتاح العلاقات الامريكية السودانية خلال السنوات الاخيرة، وكذلك تمثل ملفاً مهماً جداً.

السفير الامريكي جودفري اكد ان ترفيع التمثيل الدبلوماسي بين البلدين يبرز التزام واشنطون بتعزيز وتعميق علاقاتها مع الشعب السوداني، متوقعاً تشكيل حكومة على المدى القريب بقيادة مدنية ضمن حوار وطني شامل يضم جميع الاطراف السودانية.

العصا والجزرة

وبالمقابل فإن السفير السوداني بامريكا الجديد محمد عبد الله ادريس ينتظر ان يقدم اوراق اعتماده للخارجية الامريكية والرئيس الامريكي بايدن خلال الاسبوع المقبل، ليتم رسمياً تنفيذ الترفيع الدبلوماسي على ارض الواقع بعد اشهر من تسمية الجانبين لمن يمثلهما عند الآخر في انتظار اعتمادهما، وقد تم ذلك.

مراقبون اعتبروا ان تقديم السفير الامريكي أوراق اعتماده امام البرهان بمثابة لطمة قوية لقوى الحرية والتغيير مجموعة المجلس المركزي التي كانت تستند في مرتكزات نزاعها مع الجانب العسكري الى عصا (امريكا) وجزرة (المجتمع) الدولي. وبلقاء البرهان وجون تلاشت تلك الصورة التي طالما رسمتها القوى المعارضة بأن المجتمع الدولي والاقليمي يصطف خلفها، وليس امريكا فقط بل امتد الامر لدول الترويكا التي بدأت تقتنع باهمية وجود المكون العسكري في ظل تشاكس القوى السياسية، ولعل دلالات بياناتها الاخيرة التي تحمل في باطنها التأييد لخطوات البرهان وفي ظاهرها شعارات التمثيل الحكومي المدني، ولكن لان لغة السياسة لا تعترف بالانفعالات اللحظية وواقعها يعتمد على مصالح الشعوب، فإن المجتمع الدولي والاقليمي في طريقه رسمياً للاصطفاف مع الامر الواقع، خشية تفاقم الازمات جراء الازمة السياسية, وهو ما عسكته رمزية الصور المنتشرة للسفير الامريكي في القصر الرئاسي، وتبادل الابتسامات مع رئيس المجلس السيادي التي اضحت ترنداً طيلة يوم أمس.

الخرطوم : النورس نيوز

Exit mobile version