نساء في جحيم التعدين عن الذهب..

قيادي أهلي: أكثر من 95% من نساء (بلقُوة) يمارسن التعدين وأغلبهنّ من كبار السن..
* مُعلمة: نسبة الأمية وسط النساء تفوق الـ٩٥% خاصة اليافعات من ٨- ١٤ سنة، والمجتمعات غير متصالحة مع الحق في التعليم..
* ناشطة: الدولة تعتبر النساء مصدرا من مصادر الدخل والجباية، تجاه كل الأعمال التي يقمنّ بها في الأسواق، ومناطق التعدين
* الحاكم: الأوضاع الإنسانية في مناطق التعدين كارثية مع غياب دور المسؤولية المجتمعية لشركات التعدين

لم يك اختيار اسم المنطقة (بلقوة) مغايرا لطبيعتها القاسية، والتي تعني لدى ساكنوها (بالقوة)، حيث لا مكان للضعفاء ويجب على المرء أن يصارع بالقوة للحصول على رزقه، غالبية النساء يعملن في التعدين عن الذهب، مجال ظلّ لفترة طويلة حصرياً على الرجال، لقسوته وخطورته التي تصل حد الموت، في مناطق التعدين الأخرى النساء يقمن ببيع الأطعمة والمشروبات، هنا في (بلقوة) يشاركن الرجل جميع مراحل التعدين ابتداء من الدخول في الآبار، تكسير الحجارة، حملها للطواحين، غربلتها في الأحواض.. وأحياناً لا يجنين سوى الرهق، لتتراكم الديون على عاتقهن، لكن يبقى الإصرار بأن القادم أحلى، وأن جحيم البحث عن الذهب أكثر رحمة من جحيم الحاجة وانتظار نعيم من المفترض أن تحققه الحكومة.
تُرى ماهي الظروف التي تدفع النساء والأطفال الدخول لهذا المجال؟ وكيف يمكن يمكن أن تصور دخول المرأة في بئر تمتد لأكثر من (15) متر في باطن الأرض؟ وتحملُ قاصر جوالات تراب يفوق وزنها ثلاثة أضعاف؟ أو استنشاق ملايين ذرات التراب بالقرب من الطواحين، أو يجلسنّ طوال النهار نصف غارقات في أحواض المياه لغربلة تراب يستجدين منه عبر الزئبق بعض حبات من الذهب؟.
مُغالبة الحياة
المرأة الستينية (مريم) منذ صباحها الباكر، تبدأ في (هرس) حجارة بمساعدة شاكوش، تملأ جوالاتها وتنتظر (التُكتك) لتحملها للطواحين، بالقرب من الطاحونة تنتظر دورها وسط عاصفة من الرمال الناعمة، تملأ صدرها مما يدفعها للسعال وبصق بعض الطين، والجلوس مُجدداً حتى تنتهي مرحلة الطحن، تنتظر (الكارو) لحملها للحوض، تبدو (مريم) حتى وسطها غارقة في حوض المياه الأحمر، جوالات التُراب بالقرب منها، تملأ منها (الصاج) وتُغرقه في المياه، تستجدي بعض ذرات الذهب أن تبقى، تعيد العملية أكثر من خمسين مرة أو حتى تُفرغ جوالاتها، اليوم يكادُ أن يمضي، تبدأ مرحلة أخرى بمساعدة قطرات من الزئبق، بيدها المتصالبة تقوم بتحريك التراب تبدأ بعض ذرات الذهب بالتجمع، مع اقتراب مغيب تحمل في يدها ثلاث أو أربع حبات من الذهب تحملها للصائغ ليمنحها ثلاثة أو أربعة ألف جنيه، تدفع منها لصاحب (التُكتك) و(الكارو) وما تبقى بعض الدقيق والزيت أو ما يستلزم سد رمق بعض الأطفال.
العشرات من النساء هنا في (بلقُوة) يقومن بما تقوم به (مريم) كل يوم، بصحبة أطفالهنّ، يافعات وأطفال مكانهم فصل الدراسة، لكن شريعة (بلقُوة) تقول: على المرء أن يعمل من أجل أن يعيش. (سلوى) تقول أن معظم النساء هنا يعانين من مشاكل في القلب والصدر والأرجل بسبب الرطوبة، وإرهاق في الجسم بسبب حمل جوالات التراب، والتهاب في الدم والبول. وأحياناً بعد غربلة أربعة أو خمسة جوالات لا نجد شيئاً، أو بضع حبات لا تكفي تكلفة ترحيل التراب وطحنه، حيث تشير إلى أن قيمة طحن (2) جوال حجر بمبلغ (2500) جنيه، والترحيل بـ(600) جنيه، ترحيل للحوض (200) جنيه، يومياً نحن داخل الأحواض، بدون فائدة تعادل الجهد، الصاغة لتراكم الديون لا يمنحوننا المال، “نتعب هنا عشان نوفر قروش للزراعة ونطلع حق الدقيق والسكر”. قالت أنها بدأت العمل في التعدين منذ العام2017 بعد وفاة زوجها، وبعض النساء لا يكتفين بالتراب الذي يخرجه الرجال من البئر، وينزلن حتى (10 أمتار، وحدثت كثير من الانهيارات ودُفنت نساء تحت التراب.
وجبة واحدة!
ما الذي يدفع نساء للعمل في التعدين؟ تُجيب سيدة حماد إدريس قائلة: شغالة في الذهب من عمري 8 سنة، والآن بأولادي الشغل خطير جداً، المرأة لو ما مجبورة ما بتشتغل في الذهب، التراب يؤثر في الصدر والجسم والاصابات بكسر في الأصابع واليد، لكن مجبورين عشان أكل العيش، المرأة مجبورة عشان معيشة اولادها، حتى العندها راجل بتكون ظروفه صعبة والمفترض تساعد هي وأطفالها، وممكن تلقى أسرة كاملة تعمل في الذهب يوم كامل لتوفرّ بس حق العشاء، قبل الذهب كنا نشتغل في زراعة، ولأن الأرض ما حقتنا، من قروش الذهب نوفر مبلغ للتجهيز للزراعة.
سيدة خمسينية أخرى ذهبت قائلة: أكثر ما يُخيفنا الحوادث التي تحدث في المنطقة بسبب انهيار حُفرة أو كسر الأصابع، وخوفنا الأكبر على النساء الحوامل يكسرن الحجر وينزلن الأحواض ويحملن جوالات التراب، وتضيف: “لو ماشتغلوا ما ياكلو، النسوان بشتغلوا عشان يساعدو الرجال، نسبة الدهب بسيطة والصاغة مطالبننا قروش كتيرة، لكن بتعاملو كويس، لو الواحدة مريضة مشت للصائغ عايزة دين للعلاج بيديها، نقول للحكومة صلحوا لينا المدارس، العيال ديل لو قروا أمورنا بتتصلح”.
قيادي أهلي بالمنطقة ذهب قائلاً: منطقة (بلقُوة) من المناطق التي يتوفر فيها الذهب، وتتقوّم المنطقة من خلال التعدين، أكثر من 95% من نساء المنطقة يمارسن التعدين وأغلبهنّ من كبار السن، بكل مراحله أسوة بالرجل، بعضهن ينزل الآبار، والأخريات يأخذن التراب الذي يخرجه الرجال من الآبار، وفي الغالب نسبة الذهب فيه ضئيلة، معظم النساء من الأرامل أو فقدن أزواجهنّ بسبب الحرب، وبعضهنّ يساعدن أزواجهن.
التعليم مقابل الغذاء
أين الدولة من قضايا النساء واستغلالهن في المجتمعات المحلية والريفية؟ تساؤل تُجيب عليه الأستاذة نفحات التي ترى أن غياب الدولة أثرّ بشكل كبير على وضعية المرأة، وغياب حق التملك وتقوم باستئجار ارضها لتقوم بزراعتها، الوضع الاقتصادي له دور كبير في تراجع مكانة المرأة في المجتمعات المحلية، لكن الدور الأكبر ناتج عن العادات والتقاليد، نسبة الأمية وسط النساء تفوق نسبة ٩٥% خاصة اليافعات من ٨- ١٤ سنة، بسبب أن المجتمعات غير متصالحة مع الحق في التعليم، أو الظروف الاقتصادية غير مشجعة على انتظامهن في فصول دراسية، أو ربما لا توجد مدرسة في المنطقة ولبعد المسافة للمناطق المجاورة يحجمن عن التعليم.. بعض المجتمعات لا تشجع حصول الطفل أو الطفلة على التعليم، بل تجبرهم على العمل في سن مبكرة للحصول على الغذاء، وهنا تكمن الخطورة، يمكن للدولة أن تنتهج شعار التعليم مقابل الغذاء لتشجيع الفتيات على التعليم وإنشاء داخليات ووجبات للتلميذات. وتمضي نفحات، لكن دور الدولة غائب تماما عن رعاية النساء، بل تعتبرهن مصدرا من مصادر الدخل والجباية تجاه كل الأعمال التي تقوم بها النساء حتى على مستوى عملهن في الأسواق، ومناطق التعدين، وللأسف الشركات العاملة والمستثمرة في هذه المناطق تتناسى مسؤوليتها الاجتماعية تجاه هذه المجتمعات. هنالك مجهودات يقوم بها المجتمع المدني لرفع الوعي والتنوير بالحقوق في المجتمعات المحلية، لكنها تظل خجولة في ظل غياب دور الدولة، ويضيع المجهود لغياب المتابعة من الدولة .
النساء الأكثر تضرراً
كيف تبدو إمكانيات الدولة تجاه قضايا الفقر..؟ وهل هناك مؤسسات مختصة لتضييق دائرة الفقر..؟ مدير إدارة مكافحة الفقر بالإقليم يحيي يذهب إلى أن النساء أكثر الفئات تأثراً بالفقر، ويقع عليهنّ عبء إعالة الأسرة وتربية الأبناء، الظروف الاقتصادية تدفعهن للعمل في أي مهنة للحصول على المال، ومعظم النساء أرامل ومطلقات أو فقدن أزواجهن بسبب الحرب والنزاعات، لذلك من الطبيعي أن نجد نساء في مناطق التعدين عن الذهب، أو الأعمال الشاقة في استخراج الخرصانة وأعمال البناء، وحركة النساء في الأسواق، ويمارسنّ أعمال يمكن أن ينتج عنها مظاهر سالبة كثيرة ويتم استغلالهنّ بسبب حاجتهن للمال، وبالرغم من وجود منظمات تعمل في مجال مكافحة الفقر لكن لا تُوجد مشاريع حية لتحقيق الهدف، ومن خلال مشاريع التمويل التي تنتظم الولاية نجد أن النساء أكثر المتقدمين للحصول على التمويل ونحن نثق في قدرتهن على إدارة المشاريع والالتزام بالسداد.
مُكافحة الفقر
مفوضية العمل الإنساني بالإقليم، تقفُ بالقرب من دائرة الفقر التي تتمدد، أحمد مطر إداري بالمفوضية ذهب إلى أن الأموال التي تدخل الولاية ضخمة جداً، ويمكن أن تدعم الدولة وليس مجرد إقليم، لكن سوء الرقابة والمتابعة وتقييم المشروعات، جعل الجهد الذي تقوم به المنظمات غير ملموس، ومعظم مكاتبها في الخرطوم والدعم يأتي أولاً لهذه المكاتب، ولا تصل كاملة للمشاريع التي يجب تنفيذها في الإقليم، ويتم التنفيذ بتكلفة أقل من الميزانية التي اُقترحت. حتى الآن لم نقم بمسح لحاجتنا على مستوى الصحة، التعليم قضايا الفقر في الأقليم لشُح الإمكانيات، إذا استطعنا توجيه المنظمات لمشاريع البنية التحتية، طرق، كباري، مياه. المنظمات موجودة تحتاج لتوجيه ورقابة وتفعيل لقانون العمل الإنساني، مشاريعها هادفة. المشاريع العاملة في مجال مكافحة الفقر غير محصورة، لكن هنالك منظمات تعمل في مجال مكافحة الفقر، خاصة على مستوى الزراعة.
الصحة في (بلقُوة)
المستشفى الموجود في منطقة (بلقوة) يتبع لأحدى المنظمات التي تدعمها بالدواء، هكذا بدأ (أ) حديثه، مُضيفاً: الأدوية التي كانت تُصرف مجاناً توقفت بسبب وجود المنظمة، الدواء الموجود لا يكفي لخمسين شخص، والمستشفى في حالة إضراب لأكثر من خمسة أيام – وقتها- أما المستشفيات الخاصة الأخرى إذا لم يك لديك (15) ألف جنيه لا يمكنك مقابلة الطبيب، المنطقة تحدث فيها الكثير من الحوادث بسبب التعدين، وأقرب مركز مُجهز يبعد مسافة ثلاث ساعات بالأرجل في حال عدم توفر المواصلات.. شركة التعدين موجودة لكن لم تقدم شيء للمواطنين.
وتضيف إحدى القابلات المحليات: يوجد إسعاف بالمركز الصحي، يتم استئجاره بـ(40) ألف جنيه، النساء يتعبنّ في الولادة ولا يوجد سرير للولادة بالمستشفى، هذه الأوضاع المتردية تسببت في موت كثير من الأطفال بسبب التعثر في الولادة وعدم جاهزية المستشفى.
أوضاع كارثية
“الأوضاع الإنسانية في المناطق الغنية بالمعادن والتعدين كارثية”، هكذا ذهب حاكم أقليم النيل الأزرق الفريق أحمد العُمدة بادي، مُضيفاً: وأحد أسباب تردي الأوضاع الإنسانية، غياب دور المسؤولية المجتمعية لشركات التعدين وغيرها في مناطق المشاريع خاصة الصحة والتعليم، ذهبتُ إلى بلقوة ولم أقبل بالوضع والمواطنين مطالبهم الماء والتعليم، ولن نقبل بأوضاع النساء المتردية، هنّ أخواتنا وأمهاتنا والأعزّ لنا، إذا وجدنا الإمكانيات سنقوم بالواجب دون أن يسألنا أحد، فهؤلاء من الشرائح التي نهتم بها وإن لم نفعل لا فائدة فينا، النساء في تقديري لهن مكانة خاصة في قلوبنا، ويجب أن لا نتركهن يتعذبن أو يتعبن في الشوارع وغيرها.

الجريدة : ماجد القوني

الخرطوم : النورس نيوز

Exit mobile version