الأخبار الرئيسيةتقارير

(الفشقة).. العبور إلى الضفة الأخرى

الفشقة- آدم محمد أحمد

من فوق مقود “جراره الزراعي”، يجلس “الستيني” محمد بابكر جابر، وهو يسدد نظراته البعيدة في عمق المساحات التي تكسوها الخضرة وتتخللها تعرجات بعض المرتفعات، تتسرّب من بين شفتيه ابتسامة خجولة، ويقول جابر: “منذ 20 عامًا انا لم أعبر هذا النهر إلى ضفته الأخرى والآن فعلناها بآلياتنا الزراعية لأن أرضنا عادت لنا”.. هنا في منطقة “ود عاروض” بالفشقة الحدودية، أقامت القوات المسلّحة جسرًا على نهر “ادبرا”، بعد معركة التحرير، وهو جسر ليس لعبور المشاة فقط وانما يجسّد مرحلة (العبور) الكبرى إلى بسط السيطرة الكاملة على تراب الوطن، بعد احتلال دام عشرات السنوات، من قبل مليشيات “الشفتة”، التي اجتاحت تلك الأراضي الشاسعة الغنية زراعيًا.

جسر ود عاروض بالفشقة
جسر منطقة “ود عاروض” بالفشقة

هدوء وخرير مياه

ثمة هدوء يلفّ المكان سوى خرير مياه الأنهار المتدفقة بقوة من الهضبة الإثيوبية، في أجواء خريفية ماتعة، يلبس الأفق ثوب الغمام، وما بين منطقة “ود كولي” ومنطقة “ودعاروض”، تتمدد مساحات الأمل داخل نفوس المواطنين، يقول أحد قادة القوات المسلحة بالمنطقة: هؤلاء الناس كانوا ينفرون منا عندما قدمنا إلى هنا لأنهم كانوا يعيشون سنوات تحت وطأة الخوف، منوّهاً إلى أنّ مليشيات الشفتة الإثيوبية كانت تمارس ضدهم أبشع أنواع الترهيب، بالاعتداءات والقتل والنهب وتمنعهم حتى من التزود بالمياه عندما يجف النهر وينقسم إلى ترع، في منطقة “ودعاروض” اقام المواطنين سوقًا مصغرًا لتلبية احتياجاتهم البسيطة، يبدو السوق فقيراً من كل شيء، سوى بضعة طاولات لبيع “الرغيف” وبعض المنتجات الزراعية والسلع من بسكويت وشاي وسكر وزيوت الطعام، واللحوم، إضافة إلى مواقع تعمل بالطاقة الشمسية يستخدمونها لشحن تلفوناتهم النقالة، مع وجود ضعف في شبكة الاتصالات، مع التقاط التلفونات النقالة لشبكة اتصالات إثيوبية.

مواطنون بود عاروض
مواطنون بود عاروض

عبور الضفة

بسبابته يشير المواطن محمد عبدالله “أربعيني”، إلى مكان بعيد قائلا: أنظر إلى هناك بين الجبال تلك سترى أرسال برج اتصالات هو يعود إلى الإثيوبيين، وأضاف “لديهم مناطق ليست بعيدة من هنا لكنهم فقدوا هذا العام خاصية التمتع بأراضينا هذه التي كانوا يزرعونها منذ سنوات”.. وقرية كولي التي ترقد الآن مطمئنة في حضن نهر “ادبرا” من ناحيته الغربية، عاشت سنوات تحت تعذيب المليشات الإثيوبية، لكنها اليوم تنام غريرة العين دون وجل، حسبما يؤكد المواطنين هناك، يقول عبدالله: الوضع مطمئن كنا نعاني معاناة كبيرة؛ مكتوفي اليدين؛ ومنذ العام 95 توقفنا عن العبور إلى مناطقنا شرق هذا النهر،  وأضاف “الآن الأمن مستتب؛ وهو أهم لنا من كل شيء”، ويشير عبدالله إلى أنّ البلاد كانت في السابق محروسة بقوات الدفاع الشعبي التي قدمت عشرات الشهداء والجرحى، وهي تدافع عن ممارسات عصابات “الشفتة” التي تختطف وتقتل وتطلب دفع جزية.. (عبدالله) حرص على تذكير الحكومة بواجباتها وهو يبعث برسالة إلى المسؤولين بأن هذه المناطق التي عادت إلى الوطن تحتاج إلى خدمات حتى يستطيع انسانها التعمير والاستقرار لأن ذلك يغلق الباب امام عودة الغزاة، يؤكد المواطن عبدالله أنهم بحاجة إلى خدمات في الصحة والمياه والتعليم إضافة إلى الخدمات العدلية والشرطية، وأضاف “لدينا مدرستين بنات وبنين تحتاج إلى إجلاس وبناء بعض فصولها بالمواد الثابتة، إضافة إلى ان هذا النهر يتحوّل في الصيف إلى برك صغيرة غير صالحة للشرب لذلك نحتاج إلى مصادر مياه آمنة”.

نهر "ادبرا" بالفشقة
نهر “ادبرا” بالفشقة

سيطرة أمنية

ولكن في عُرف الجيوش، إن الحرب تخمد قليلاً لكنها قد تعود، لذلك فإن القوات المسلّحة هناك لم ترفع يدها عن زناد البنادق، لكنها تمسك باليد الأخرى معاول البناء، فالمهتمين يمثلان صميم واجبها المقدس، توفير الأمن والحماية وبناء الوطن، يقول العميد عصام ميرغني محمد خير قائد القطاع، إن “تشييد هذه الجسور انعكست على المواطن خير ونماء وبالتالي أصبح مربوط بصورة دائمة؛ بأرضه، وتمكّن من الوصول إلى زراعته بعد تحريرها من قبل القوات المسلحة، ويؤكد ميرغني أنّ الحركة الآن أصبحت سهلة امام المواطنين الذين يإمكانهم ان ينالوا احتياجاتهم بسهولة دون عناء، وأضاف “خلال الفترة السابقة فقدنا عدد من النساء وطفل؛ لكن مع دخول الجيش انعدمت الاعتداءات تماما”، ويؤكد قائد قوات الدعم السريع بقاعدة “ودعاروض” المقدم آدم شحات تقاديم، أنّ القوات النظامية “الجيش والدعم السريع” استطاعت تأمين حركة المواطنين بين القرى وإلى مزارعهم، وأكد جاهزية القوات لأي محاولات أثيوبية لزعزعة استقرار المنطقة، وأضاف “نحن موجودين ولن نترك هذه الأرض”.

كولي الفشقة

مهمّة مقدّسة

الوصول إلى الفشقة برًا من القضارف أمر تعتريه بعض الصعوبات، بسبب الخريف، ولكن “المهمّة مقدّسة” بالنسبة لنائب رئيس هيئة الأركان عمليات بالجيش السوداني الفريق ركن خالد عابدين الشامي، الذي يقول إن القوات المسلّحة تعهدت بتوفير الأمن والاستقرار للمواطنين في الشريط الحدودي بمنطقة الفشقة، وحمايتهم من اعتداءات المليشيات الإثيوبية، وأشار الشامي إلى أنّ المنشآت التي أقيمت في المناطق المستردة تعتبر بداية لتنمية حقيقة للحدود، منوهًا إلى ان القوات المسلّحة بذلت فيها مجهودات هندسية كبيرة عبر شركاتها، إضافة إلى أبناء الوطن الكرماء الذين دفعوا من حر مالهم، وأشار الفريق الشامي إلى أن قوات الجيش تعمل على تأمين المواطنين؛ الذين عادوا إلى أراضيهم ومزارعهم التي تم تحريرها؛ وأضاف “الآن يتمتعون بحرية الحركة؛ بينما كان ذلك محرّم عليهم في السابق”، وأكّد الشامي إلى أمن الوطن لا يبنى إلا بأبناء الوطن؛ ومنع تهريب خيرات البلاد، وزاد “الأمن مسؤولية الجميع؛ كل له دور في تحقيق الأمن الوطني” وتابع: “المواطنون في الفشقة يستطيعوا الآن أن يتحركوا ويتجولوا بحرية وأمان، وهذا بفضل وجود القوات المسلحة في المنطقة وهذا عهد وواجب مقدس أن يعيش المواطن حياة كريمة دون الاعتداء عليه”.

الشامي
الشامي

داخل القضارف

مدينة القضارف التي درجت أنّ تغسل ثيابها عند كلّ ليلة، بفعل المياه المنهمرة هناك، تعيش حالة من الهدوء، فالكل ربما بدأ مشغولا بالزراعة، لا أثر يذكر على أن هذه الولاية لا يوجد بها والي، ويديرها مسؤول مكلف، يقول عمار عادل “ثلاثيني”: “لا نبالي لوجود والي او غيره، فالأمر عندنا سيان”، وما عبر عنه عمار هو لسان حال الأغلبية هنا، الذين يصارعون ضروب الحياة القاسية، ويواجهون الصعوبات الاقتصادية، دون أدنى اعتبار للحكومة التي رفعت يدها عن كل شيء تقريباً، فالقضارف مدينة تغرق في الغلاء الفاحش، فكيلو اللحمة العجالي هناك يتراوح ما بين 2500 إلى 2800 جنيه، والضأن دونه “خَرْطُ القَتاد” بالنسبة لبسطاء الناس والفقراء.

صوامع غلال القضارف
صوامع غلال القضارف

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *