للعطر افتضاح _ دولة العدالة _ د. مزمل أبو القاسم

سنظل نكتب ونحلم بتشييد أركان دولة العدالة، التي يتساوى فيها الكل أمام القانون، بلا تمييز لغنيٍ على فقير، ولا لشريفٍ على ضعيف، ولا لحاكمٍ على محكوم.

الوقائع التي شغلت الناس وأشعلت الأسافير بالأمس تدل على أننا ما زلنا بعيدين كل البُعد عن تلك الغاية النبيلة، وأن مفهوم سيادة حكم القانون الذي سعت الثورة إلى إرسائه ما يزال غائباً، بل مغّيبٌ بأمر من يفترض فيهم أن يحرسوا القانون، ويمنحوه حصانةً من كل انتهاك.

إذا جردنا الأشياء من حواشيها وانصرفنا إلى المتون؛ سنذكر أن الإجراءات القانونية المشار إليها اتخذت في الأساس ضد السيد صلاح مناع في شخصه، وليس بصفته الاعتبارية؛ كعضوٍ في لجنة تفكيك التمكين، وبالتالي لم يكن هناك ما يدفع اللجنة إلى أن تزج بنفسها فيها لتستنكرها ببيانٍ ساذج المعاني، خلط كاتبوه عمداً بين الصفتين الشخصية والاعتبارية لمناع.

لم يوفر قانون التفكيك أي حصانةٍ لأعضاء اللجنة، وبالتالي فإن مثول أياً منهم أمام النيابة في أي دعوى قضائية ينبغي أن لا يشكل حدثاً يثير الامتعاض، ولا أمراً منكراً يستوجب التظاهر والاحتجاج.

عليه لم يكن هناك ما يبرر الهلولة التي صاحبت ذلك المشهد العبثي، ولم يوجد ما يسوغ الاستنصار بلجان المقاومة وبعض مسئولي الدولة داخل حرم النيابة، اللهم إلا إذا قبلنا منطق الفوضى الذي فرض نفسه على بلادنا مؤخراً، وجعل من القصور المريع الذي يشوب أداء منصات العدالة مدخلاً لاستنصار كل متهمٍ بقبيلته وطائفته وذويه.

إذا قبلنا تلك فعلينا أن نرضى هذي، فالأمر سيان.

تكمن المصيبة في أن كل من يحتسي كوباً من خمر السلطة وتلعب بنت الصهباء برأسه في هذه البلاد المنكوبة يتوهم أنه صاحب الحق المطلق فيها، ويتحول إلى (لويس الرابع عشر) ليرفع شعار (أنا الدولة)، ويظن أنه فوق القانون، وأكبر من المحاسبة.

شكا محامو السيد صلاح مناع من بطء إجراءات التحقيق مع موكلهم، وأعلنوا تبرمهم منها لأنها استغرقت عدة ساعات، وفات عليهم أن بعض الموقوفين بأمر لجنة التفكيك وغيرها ظلوا محبوسين في ظروف اعتقالٍ قاسية شهوراً طويلةً بلا تحقيقٍ ولا محاكمات، ولم يجدوا من ينصفهم أو يدفع الحيف عنهم ويطالب بإنصافهم أو تسريع إجراءاتهم.

بالمثل لم يحصل الآلاف ممن طالتهم قرارات اللجنة وانتزعت أملاكهم وجمدت حساباتهم وشردتهم من وظائفهم على أي ملجأ يطعنون فيه ضد قرارات اللجنة، حتى تراكمت استئنافاتهم بالآلاف، وبقيت مهملةً بالشهور، من دون أن يتم النظر فيها، لأن الجهة المخولة بأداء تلك المهمة غُيّبت عمداً.

كذلك تم تعطيل المحكمة الدستورية اعتسافاً بعدم استكمال قضاتها، لقفل طريق العدالة أمام الراغبين في الطعن في دستورية قانون تفكيك التمكين.

غني عن القول أن الإصرار على استغلال السلطة، وتوظيف منصات العدالة في الكيد للخصوم، وضرب المعارضين والتشفي فيهم سيحيل بلادنا إلى غابة يأكل القوي فيها الضعيف.

على السيد صلاح مناع أن يمتثل للقانون، وأن يدافع عن نفسه ويسعى إلى تبرئة ساحته من دون أن يوظف صفته الاعتبارية وسلطته الغاشمة في لجنة التفكيك لخدمة قضايا لا دخل لها ولا صِلة باللجنة، وعلى النائب العام أن يبسط العدالة، ويطبق القانون بلا جورٍ ولا تسلط، لينزه النيابة عن الكيد الذاتي والنزاعات الشخصية، كي تستحق وصف (الخصم الشريف) حقاً لا ادعاءً.

أما لجنة التفكيك فقد فقدت مشروعيتها بفقدانها لرأسها، ونرجو لها حسن الخاتمة، بعد أن ملأت الأرض جوراً وانتهكت مقومات العدالة بلا رحمة، وننتظر من مفوضية مكافحة الفساد أن ترثها بإحسان، وتنجز مهامها بمنظارٍ قانوني بحت، وتقدم الفاسدين ولصوص الحق العام إلى القضاء، كي يقول كلمته العادلة فيهم، بمعزل عن مظاهر الكيد السياسي ومساعي التشفي والانتقام من الخصوم.

من الحسنات القليلة لهذه القضية أنها أكدت أهمية توحيد المكاييل، وقيمة احترام القانون، ورسخت حقيقةً مهمة، مفادها أن من يلعب دور الجلاد اليوم قد يتحول إلى ضحيةٍ غداً، ليستنكر ما مارسه مع خصومه، ويبحث لنفسه عن عدالةٍ لم يوفرها لغيره.

أعدلوا هو أقرب للتقوى، وتذكروا أن الكورة مدورة، والهواء قلاّب.. والدنيا ما دوامة.

Exit mobile version